الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                وأما الذي يخص الإيلاء فشيئان : أحدهما : المدة ، وهي أن يحلف على أربعة أشهر فصاعدا في الحرة أو يحلف مطلقا أو مؤبدا حتى لو حلف على أقل من أربعة أشهر لم يكن موليا في حق الطلاق ، وهذا قول عامة العلماء ، وعامة الصحابة رضي الله عنهم وقال بعض أهل العلم إن مدة الإيلاء غير مقدرة ، يستوي فيها القليل والكثير حتى لو حلف لا يقربها يوما أو ساعة كان موليا حتى لو تركها أربعة أشهر بانت .

                                                                                                                                وكذا روي عن ابن مسعود رضي الله عنه وقال ابن عباس رضي الله عنهما : إن الإيلاء على الأبد وقال الشافعي : لا يكون موليا حتى يحلف على أكثر من أربعة أشهر .

                                                                                                                                وجه قول الأولين ما روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آلى من نسائه شهرا فلما كان تسعة وعشرين يوما ترك إيلاءهن فقيل له إنك آليت شهرا يا رسول الله فقال الشهر تسعة ، وعشرون يوما } ; ولأن الله تعالى لم يذكر في كتابه الكريم للإيلاء مدة بل أطلقه إطلاقا بقوله - عز وجل - { للذين يؤلون من نسائهم } فيجري على إطلاقه ، وإنما ذكر المدة لثبوت البينونة حتى تبين بمضي المدة من غير فيء لا ليصير إيلاء شرعا ، وبه نقول ، ولنا قوله تعالى { للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر } ذكر للإيلاء في حكم الطلاق مدة مقدرة ، فلا يكون الحلف على ما دونها إيلاء في حق هذا الحكم ، وهذا ; لأن الإيلاء ليس بطلاق حقيقة ، وإنما جعل طلاقا معلقا بشرط البر شرعا بوصف كونه مانعا من الجماع أربعة أشهر فصاعدا ، فلا يجعل طلاقا بدونه ; ولأن الإيلاء هو اليمين التي تمنع الجماع خوفا من لزوم الحنث ، وبعد مضي يوم أو شهر يمكنه أن يطأها من غير حنث يلزمه ، فلا يكون هذا إيلاء .

                                                                                                                                وأما قولهم : إن المدة ذكرت لثبوت حكم الإيلاء لا للإيلاء فنقول : ذكر المدة في حكم الإيلاء لا يكون ذكرا في الإيلاء ; لأن الحكم ثبت بالإيلاء إذ به يتأكد المنع المحقق للظلم ، وأما الحديث فالمروي أن النبي صلى الله عليه وسلم آلى أن لا يدخل على نسائه شهرا ، وعندنا من حلف لا يدخل على امرأته يوما أو شهرا أو سنة لا يكون موليا في حق حكم الطلاق ; لأن الإيلاء يمين يمنع الجماع ، وهذا لا يمنع الجماع وقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : " الإيلاء على الأبد " محتمل يحتمل أن يكون معناه أن الإيلاء إذا ذكر مطلقا عن الوقت يقع على الأبد ، وإن لم يذكر الأبد ، ونحن نقول به ، ويحتمل أنه أراد به أن ذكر الأبد شرط صحة الإيلاء في حق حكم الطلاق فيحمل على الأول توفيقا بين الأقاويل والدليل عليه ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : كان إيلاء أهل الجاهلية السنة [ ص: 172 ] والسنتين ، وأكثر من ذلك فوقته الله أربعة أشهر ، فمن كان إيلاؤه أقل من أربعة أشهر فليس بإيلاء ; ولأنه ليس في النص شرط الأبد فيلزمه إثبات حكم الإيلاء في حق الطلاق عند تربص أربعة أشهر ، فلا تجوز الزيادة إلا بدليل .

                                                                                                                                وأما الكلام مع الشافعي فمبني على حكم الإيلاء في حق الطلاق ، فعندنا إذا مضت أربعة أشهر تبين منه ، وعنده لا تبين بل توقف بعد مضي هذه المدة ، ويخير بين الفيء والتطليق ، فلا بد ، وأن تزيد المدة على أربعة أشهر ، ونذكر المسألة في بيان حكم الإيلاء إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                وسواء كان الإيلاء في حال الرضا أو الغضب أو أراد به إصلاح ولده في الرضاع أو الإضرار بالمرأة عند عامة العلماء ، وعامة الصحابة رضي الله عنهم ، وهو الصحيح ; لأن نص الإيلاء لا يفصل بين حال ، وحال ; ولأن الإيلاء يمين ، فلا يختلف حكمه بالرضا والغضب ، وإرادة الإصلاح والإضرار كسائر الأيمان ، وأما مدة إيلاء الأمة المنكوحة فشهران فصاعدا عندنا ، وعند الشافعي مدة إيلاء الأمة كمدة إيلاء الحرة واحتج بقوله تعالى { للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر } من غير فصل بين الحرة والأمة والكلام من حيث المعنى مبني على اختلاف أصل نذكره في حكم الإيلاء ، وهو أن مدة الإيلاء ضربت أجلا للبينونة عندنا فأشبه مدة العدة فيتنصف بالرق كمدة العدة ، وعنده ضربت لإظهار ظلم الزوج بمنع حقها عن الجماع في المدة ، وهذا يوجب التسوية بين الأمة والحرة في المدة كأجل العنين ولا حجة له في الآية ; لأنها تناولت الحرائر لا الإماء ; لأنه سبحانه ، وتعالى ذكر عزم الطلاق ثم عقبه بقوله تعالى { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } ، وهي عدة الحرائر ، وسواء كان زوجها عبدا أو حرا فالعبرة لرق المرأة ، وحريتها لا لرق الرجل ، وحريته ; لأن الإيلاء في حق أحد الحكمين طلاق فيعتبر فيه جانب النساء .

                                                                                                                                ولو اعتض العتق على الرق بأن كانت مملوكة وقت الإيلاء ثم أعتقت تحولت مدتها مدة الحرائر ، بخلاف العدة فإنها إذا طلقت طلاقا بائنا ثم أعتقت لا تنقلب عدتها عدة الحرائر ، وفي الطلاق الرجعي تنقلب والفرق بين هذه الجملة يعرف في موضعه إن شاء الله تعالى ، وعلى هذا يخرج ما إذا قال لامرأته الحرة : والله لا أقربك أربعة أشهر إلا يوما - لا يكون موليا لنقصان المدة .

                                                                                                                                ولو قال لها : والله لا أقربك شهرين ، وشهرين بعد هذين الشهرين فهو مول ; لأنه جمع بين شهرين وشهرين بحرف الجمع ، والجمع بحرف الجمع كالجمع بلفظ الجمع فصار كأنه قال : والله لا أقربك أربعة أشهر .

                                                                                                                                ولو قال لها : والله لا أقربك شهرين فمكث يوما ثم قال : والله لا أقربك شهرين بعد هذين الشهرين الأولين لم يكن موليا ; لأنه إذا سكت يوما فقد مضى يوم من غير حكم الإيلاء ; لأن الشهرين ليسا بمدة الإيلاء في حق الحرة ، فإذا قال : وشهرين بعد هذين الشهرين فقد جمع الشهرين الآخرين إلى الأوليين بعدما مضى يوم من غير حكم الإيلاء فصار كأنه قال : والله لا أقربك أربعة أشهر إلا يوما ولو قال ذلك لم يكن موليا لنقصان المدة ، كذا هذا .

                                                                                                                                ولو قال : والله لا أقربك سنة إلا يوما لم يكن موليا للحال في قول أصحابنا الثلاثة ، وعند زفر يكون موليا للحال حتى لو مضت السنة ولم يقربها فيها لا تبين ولو قربها يوما لا كفارة عليه عندنا ، وعنده إذا مضت أربعة أشهر منذ قال هذه المقالة ولم يقربها فيها تبين لو قربها تلزمه الكفارة .

                                                                                                                                وجه قوله أن اليوم المستثنى ينصرف إلى آخر السنة كما في الإجارة فإنه لو قال أجرتك هذه الدار سنة إلا يوما انصرف اليوم إلى آخر السنة حتى صحت الإجارة ، كذا ههنا .

                                                                                                                                وإذا انصرف إلى آخر السنة كانت مدة الإيلاء أربعة أشهر ، وزيادة فيصير موليا ; ولأنه إذا انصرف إلى آخر السنة ، فلا يمكنه قربان امرأته في الأربعة أشهر من غير حنث يلزمه ، وهذا حد المولي ولنا أن المستثنى يوم منكر فتعيين اليوم الآخر تغيير الحقيقة ولا يجوز تغيير الحقيقة من غير ضرورة فبقي المستثنى يوما شائعا في السنة فكان له أن يجعل ذلك اليوم أي يوم شاء ، فلا تكمل المدة ; لأنه إذا استثنى يوما شائعا في الجملة فلم يمنع نفسه عن قربان امرأته بما يصلح مانعا من القربان في المدة ; لأن له أن يعين يوما للقربان أي يوم كان فيقربها فيه من غير حنث يلزمه فلم يكن موليا .

                                                                                                                                وفي باب الإجارة مست الضرورة إلى تعيين الحقيقة لتصحيح الإجارة ; إذ لا صحة لها بدونه ; لأن كون المدة معلومة في الإجارة شرط صحة الإجارة ولا تصير معلومة إلا بانصراف الاستثناء إلى اليوم الأخير ، وههنا لا ضرورة ; لأن جهالة المدة لا تبطل اليمين ، فإن قال ذلك ثم قربها [ ص: 173 ] يوما ينظر : إن كان قد بقي من السنة أربعة فصاعدا صار موليا لوجود كمال المدة ، ولوجود حد المولي ، وإن بقي أقل من ذلك لم يصر موليا لنقصان المدة ، ولانعدام حد الإيلاء ، وعلى هذا الخلاف إذا قال : والله لا أقربك سنة إلا مرة غير أن في قوله " إلا يوما " إذا قربها وقد بقي من السنة أربعة أشهر فصاعدا لا يصير موليا ما لم تغرب الشمس من ذلك اليوم ، ويعتبر ابتداء المدة من وقت غروب الشمس من ذلك اليوم ; لأن اليوم اسم لجميع هذا الوقت من أوله إلى آخره ، فلا ينتهي إلا بغروب الشمس ، وفي قوله " إلا مرة " يصير موليا عقيب القربان بلا فصل فصل ويعتبر ابتداء المدة من وقت فراغه من القربان مرة ; لأن المستثنى ههنا هو القربان مرة لا اليوم والمستثنى هناك هو اليوم لا المرة ; لذلك افترقا ثم مدة أشهر الإيلاء تعتبر بالأهلة أم بالأيام ؟ فنقول : لا خلاف أن الإيلاء إذا وقع في غرة الشهر تعتبر المدة بالأهلة ، وإذا وقع في بعض الشهر لم يذكر عن أبي حنيفة نص رواية وقال أبو يوسف تعتبر بالأيام ، وذلك مائة ، وعشرون يوما .

                                                                                                                                وروي عن زفر أنه يعتبر بقية الشهر بالأيام والشهر الثاني والثالث بالأهلة ، وتكمل أيام الشهر الأول بالأيام من أول الشهر الرابع ، ويحتمل أن يكون هذا على اختلافهم في عدة الطلاق والوفاة على ما نذكره هناك إن شاء الله تعالى .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية