الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( فصل ) :

                                                                                                                                وأما سبب وجوب هذه النفقة فقد اختلف العلماء فيه قال أصحابنا : سبب وجوبها استحقاق الحبس الثابت بالنكاح للزوج عليها وقال الشافعي السبب هو الزوجية وهو كونها زوجة له وربما قالوا : ملك النكاح للزوج عليها وربما قالوا : القوامة واحتج بقوله تعالى { الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم } أوجب النفقة عليهم لكونهم قوامين والقوامة تثبت بالنكاح فكان سبب وجوب النفقة النكاح ; لأن الإنفاق على المملوك من باب إصلاح الملك واستبقائه فكان سبب وجوبه الملك ، كنفقة المماليك ولنا أن حق الحبس الثابت للزوج عليها بسبب النكاح مؤثر في استحقاق النفقة لها عليه لما بينا فأما الملك فلا أثر له ; لأنه قد قوبل بعوض مرة وهو المهر فلا يقابل بعوض آخر ; إذ العوض الواحد لا يقابل بعوضين ، ولا حجة له في الآية ; لأن فيها إثبات القوامة بسبب النفقة لا إيجاب النفقة بسبب القوامة .

                                                                                                                                وعلى هذا الأصل ينبني أنه لا نفقة على مسلم في نكاح فاسد لانعدام سبب الوجوب وهو حق الحبس الثابت للزوج عليها بسبب النكاح ; لأن حق الحبس لا يثبت في النكاح الفاسد وكذا النكاح الفاسد ليس بنكاح حقيقة وكذا في عدة منه إن ثبت حق الحبس ; لأنه لم يثبت بسبب النكاح لانعدامه وإنما يثبت لتحصين الماء ولأن حال العدة لا يكون أقوى من حال النكاح فلما لم تجب في النكاح فلأن لا تجب في العدة أولى وتجب في العدة من نكاح صحيح لوجود سبب الوجوب وهو استحقاق الحبس للزوج عليها بسبب النكاح ; لأن النكاح قائم من وجه فتستحق النفقة كما كانت تستحقها قبل الفرقة بل أولى ; لأن حق الحبس بعد الفرقة تأكد بحق الشرع وتأكد السبب يوجب تأكد الحكم فلما وجبت قبل الفرقة ; فبعدها أولى سواء كانت العدة عن فرقة بطلاق أو عن فرقة بغير طلاق ، وسواء كانت الفرقة بغير طلاق من قبل الزوج أو من قبل المرأة إلا إذا كانت من قبلها بسبب محظور استحسانا ، أو شرح هذه الجملة أن الفرقة إذا كانت من قبل الزوج بطلاق ; فلها النفقة والسكنى سواء كان الطلاق رجعيا أو بائنا وسواء كانت حاملا أو حائلا بعد أن كانت مدخولا بها عندنا لقيام حق حبس النكاح وعند الشافعي إن كانت مطلقة طلاقا رجعيا أو بائنا وهي حامل فكذلك .

                                                                                                                                فأما المبتوتة إذا كانت حاملا فلها السكنى ولا نفقة لها لزوال النكاح بالإبانة وكان ينبغي أن لا يكون لها السكنى إلا أنه ترك القياس في السكنى بالنص وعند ابن أبي ليلى لا نفقة للمبتوتة ولا سكنى لها والمسألة ذكرت في كتاب الطلاق وفي بيان أحكام العدة وسواء كان الطلاق ببدل أو بغير بدل وهو الخلع والطلاق على مال لما قلنا ، ولو خالعها على أن يبرأ من النفقة والسكنى ; يبرأ من النفقة ولا يبرأ من السكنى لكنه يبرأ عن مؤنة السكنى ; لأن النفقة حقها على الخلوص وكذا مؤنة السكنى فتملك الإبراء عن حقها فأما السكنى ففيها حق الله عز وجل فلا تملك المعتدة إسقاطه ولو أبرأته عن النفقة من غير قطع لا يصح الإبراء ; لأن الإبراء إسقاط الواجب فيستدعي تقدم الوجوب والنفقة تجب شيئا فشيئا على حسب مرور الزمان فكان الإبراء إسقاطا قبل الوجوب فلم يصح بخلاف ما إذا اختلعت نفسها على نفقتها لما ذكرناه في الخلع ولأنها جعلت الإبراء عن النفقة عوضا عن نفسها في العقد ولا يصح ذلك إلا بعد سابقة الوجوب فيثبت الوجوب مقتضى الخلع باصطلاحهما كما لو اصطلحا على النفقة أنها تجب وتصير دينا في الذمة كذا هذا ، وكذلك الفرقة بغير طلاق إذا كانت من قبله فلها النفقة والسكنى سواء كانت بسبب مباح كخيار البلوغ أو بسبب محظور كالردة ووطء أمها أو ابنتها أو تقبيلهما بشهوة بعد أن يكون بعد الدخول بها لقيام السبب وهو حق [ ص: 17 ] الحبس للزوج عليها بسبب النكاح وإذا كانت من قبل المرأة فإن كانت بسبب مباح كخيار الإدراك وخيار العتق وخيار عدم الكفاءة فكذلك لها النفقة والسكنى ، وإن كانت بسبب محظور بأن ارتدت أو طاوعت ابن زوجها أو أباه أو لمسته بشهوة ; فلا نفقة لها استحسانا ولها السكنى وإن كانت مستكرهة والقياس أن يكون لها النفقة والسكنى في ذلك كله ، وجه القياس أن حق الحبس قائم وتستحق النفقة كما إذا كانت الفرقة من قبلها بسبب مباح وكما إذا كانت الفرقة من قبل الزوج بسبب مباح أو محظور وللاستحسان وجهان : أحدهما أن حق الحبس قد بطل بردتها .

                                                                                                                                ألا ترى أنها تحبس بعد الردة جبرا لها على الإسلام لثبوت بقاء حق النكاح فلم تجب النفقة بخلاف ما إذا كانت الفرقة بسبب مباح ; لأن هناك حبس النكاح قائم فبقيت النفقة وكذا إذا كانت من قبل الزوج بسبب هو معصية ; لأنها لا تحبس بردة الزوج فيبقى حبس النكاح فتبقى العدة لكن هذا يشكل بما إذا طاوعت ابن زوجها أو قبلته بشهوة ; أنها لا تستحق النفقة وإن بقي حبس النكاح ما دامت العدة قائمة ولا إشكال في الحقيقة ; لأن هناك عدم الاستحقاق لانعدام شرط من شرائط الاستحقاق وهو أن لا يكون الفرقة من قبلها خاصة بفعل هو محظور مع قيام السبب وهو حبس النكاح فاندفع الإشكال بحمد الله تعالى ، والثاني أن حبس النكاح إنما أوجب النفقة عليه صلة لها فإذا وقعت الفرقة بفعلها الذي هو معصية لم تستحق الصلة ; إذ الجاني لا يستحق الصلة بل يستحق الزجر وذلك في الحرمان لا في الاستحقاق كمن قتل مورثه بغير حق أنه يحرم الميراث لما قلنا كذا هذا بخلاف ما إذا كانت مستكرهة على الوطء ; لأن فعلها ليس بجناية فلا يوجب حرمان الصلة وكذا إذا كانت الفرقة بسبب مباح وبخلاف الزوج ; لأن النفقة حقها قبل الزوج فلا يؤثر فعله الذي هو معصية في إسقاط حق الغير فهو الفرق بين الفصلين وإنما لم تحرم السكنى بفعلها الذي هو معصية لما قلنا إن في السكنى حق الله تعالى فلا يحتمل السقوط بفعل العبد ، ولو ارتدت في النكاح حتى حرمت النفقة ثم أسلمت في العدة ; لا تستحق النفقة ولو ارتدت في العدة ثم أسلمت وهي في العدة تعود النفقة ، ووجه الفرق أن النفقة في الفصل الثاني بقيت واجبة بعد الفرقة قبل الردة لبقاء سبب الوجوب وهو حبس النكاح وقت وجوب العدة ثم امتنع وجوبها من بعد تعارض الردة فإذا عادت إلى الإسلام فقد زال العارض فتعود النفقة .

                                                                                                                                وأما في الفصل الأول فالنفقة لم تبق واجبة وقت وجوب العدة لبطلان سبب وجوبها بالردة في حق حبس النكاح ; لأن الردة أوجبت بطلان ذلك الحبس فلا يعود من غير تجديد النكاح فلا تعود النفقة بدونه والأصل في هذا أن كل امرأة لم تبطل نفقتها بالفرقة ثم بطلت في العدة لعارض منها ثم زال العارض في العدة ; تعود نفقتها وكل من بطلت نفقتها بالفرقة لا تعود النفقة في العدة وإن زال سبب الفرقة في العدة بخلاف ما إذا نشزت ثم عادت ; أنها تستحق النفقة ; لأن النشوز لم يوجب بطلان حق الحبس الثابت بالنكاح وإنما فوت التسليم المستحق بالعقد فإذا عادت فقد سلمت نفسها فاستحقت النفقة ولو طاوعت ابن زوجها أو أباه في العدة أو لمسته بشهوة فإن كانت معتدة من طلاق وهو رجعي ; فلا نفقة لها لأن الفرقة ما وقعت بالطلاق وإنما وقعت بسبب وجد منها وهو محظور وإن كان الطلاق بائنا أو كانت معتدة عن فرقة بغير طلاق فلها النفقة والسكنى بخلاف ما إذا ارتدت في العدة أنه لا نفقة لها إلى أن تعود إلى الإسلام وهي في العدة ; لأن حبس النكاح يفوت بالردة ولا يفوت بالمطاوعة والمس ، ولو ارتدت في العدة ولحقت بدار الحرب ثم عادت وأسلمت أو سبيت وأعتقت أو لم تعتق ; فلا نفقة لها لأن العدة قد بطلت باللحاق بدار الحرب ; لأن الردة مع اللحاق بمنزلة الموت ، ولو طلق امرأته وهي أمة طلاقا بائنا وقد كان المولى بوأها مع زوجها بيتا حتى وجبت النفقة ثم أخرجها المولى لخدمته حتى سقطت النفقة ثم أراد أن يعيدها إلى الزوج ويأخذ النفقة ; كان له ذلك وإن لم يكن بوأها المولى بيتا حتى طلقها الزوج ثم أراد أن يبوئها مع الزوج في العدة لتجب النفقة فإنها لا تجب ، وجه الفرق أن النفقة كانت واجبة في الفصل الأول لوجود سبب الوجوب - وهو الاحتباس - وشرطه وهو التسليم إلا أنه لما أخرجها إلى خدمته فقد فوت على الزوج الاحتباس الثابت حقا له والتسليم ; فامتنع وجوب النفقة له ، فإذا أعادها إلى الزوج عاد حقه فيعود حق [ ص: 18 ] المولى في النفقة فأما في الفصل الثاني فالنفقة ما كانت واجبة في العدة لانعدام سبب الوجوب أو شرط الوجوب وهو التسليم فهو بالبينونة يريد إلزام الزوج النفقة ابتداء في العدة فلا يملك ذلك والأصل في ذلك أن كل امرأة كانت لها النفقة يوم الطلاق ثم صارت إلى حال لا نفقة لها فيها ; فلها أن تعود وتأخذ النفقة ، وكل امرأة لا نفقة لها يوم الطلاق فليس لها نفقة أبدا إلا الناشزة وتفسير ذلك والوجه فيه ما ذكرنا ويستوي في نفقة المعتدة عدة الأقراء وعدة الأشهر وعدة الحمل ; لاستواء الكل في سبب الاستحقاق فينفق عليها ما دامت في العدة وإن تطاولت المدة لعذر الحبل أو لعذر آخر ويكون القول في ذلك قولها ; لأن ذلك أمر يعرف من قبلها حتى لو ادعت أنها حامل أنفق عليها إلى سنتين منذ طلقها ; لأن الولد يبقى في البطن إلى سنتين فإن مضت سنتان ولم تضع فقالت : كنت أتوهم أني حامل ولم أحض إلى هذه الغاية وطلبت النفقة لعذر امتداد الطهر وقال الزوج : إنك ادعيت الحمل فإنما تجب علي النفقة لعلة الحمل ، وأكثر مدة الحمل سنتان وقد مضى ذلك فلا نفقة علي فإن القاضي لا يلتفت إلى قوله ويلزمه النفقة إلى أن تنقضي عدتها بالأقراء وتدخل في عدة الإياس ; لأن أحد العذرين إن بطل وهو عذر الحمل فقد بقي الآخر وهو عذر امتداد الطهر ; إذ الممتد طهرها من ذوات الأقراء وهي مصدقة في ذلك .

                                                                                                                                فإن لم تحض حتى دخلت في حد الإياس ; أنفق عليها ثلاثة أشهر فإن حاضت في الأشهر الثلاثة واستقبلت العدة بالحيض فلها النفقة ; لأنها معتدة وكذلك لو كانت صغيرة يجامع مثلها فطلقها بعد ما دخل بها أنفق عليها ثلاثة أشهر فإن حاضت في الأشهر الثلاثة واستقبلت عدة الأقراء أنفق عليها حتى تنقضي عدتها لما قلنا وإن طالبته امرأة بالنفقة وقدمته إلى القاضي فقال الرجل للقاضي : قد كنت طلقتها منذ سنة وقد انقضت عدتها في هذه المدة وجحدت المرأة الطلاق فإن القاضي لا يقبل قول الزوج إنه طلقها منذ سنة ، ولكن يقع الطلاق عليها منذ أقر به عند القاضي ; لأنه يصدق في حق نفسه لا في إبطال حق الغير فإن أقام شاهدين على أنه طلقها منذ سنة والقاضي لا يعرفهما أمره القاضي بالنفقة وفرض لها عليه النفقة ; لأن الفرقة منذ سنة لم تظهر بعد فإن أقام بينة عادلة أو أقرت هي أنها قد حاضت ثلاث حيض في هذه السنة فلا نفقة لها على الزوج وإن كانت أخذت منه شيئا ترده عليه لظهور ثبوت الفرقة منذ سنة وانقضاء العدة وإن قالت لم أحض في هذه السنة ; فالقول قولها ولها النفقة ; لأن القول في انقضاء العدة قولها .

                                                                                                                                فإن قال الزوج : قد أخبرتني أن عدتها قد انقضت لم يقبل قوله في إبطال نفقتها ; لأنه غير مصدق عليها في إبطال حقها ، ولو طلق امرأته ثلاثا أو بائنا فامتدت عدتها إلى سنتين ثم ولدت لأكثر من سنتين وقد كان الزوج أعطاها النفقة إلى وقت الولادة فإنه يحكم بانقضاء عدتها قبل الولادة لستة أشهر عند أبي حنيفة ومحمد ويسترد نفقة ستة أشهر قبل الولادة وعند أبي يوسف لا يسترد شيئا من النفقة ، وكذلك إذا طلق امرأته في حال المرض فامتد مرضه إلى سنتين وامتدت عدتها إلى سنتين ثم ولدت المرأة بعد الموت بشهر وقد كان أعطاها النفقة إلى وقت الوفاة ; فإنها لا ترث ويسترد منها نفقة ستة أشهر عند أبي حنيفة ومحمد وعند أبي يوسف ترث ولا يسترد شيئا من النفقة وقد مرت المسألتان في كتاب الطلاق ، ولا نفقة في الفرقة قبل الدخول بأي سبب كانت لارتفاع النكاح من كل وجه فينعدم السبب وهو الحبس الثابت بالنكاح وأم الولد إذا أعتقها مولاها ووجبت عليها العدة لا نفقة لها وإن كانت محبوسة ممنوعة عن الخروج ; لأن هذا الحبس لم يثبت بسبب النكاح وإنما يثبت لتحصين الماء فأشبهت المعتدة من النكاح الفاسد ولأن نفقتها قبل العتق إنما وجبت بملك اليمين لا بالاحتباس وقد زال بالإعتاق ونفقة الزوجة إنما وجبت بالاحتباس وإنه قائم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية