الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                وأما البئر إذا تنجست فغار ماؤها وجف أسفلها ، ثم عاودها الماء فقال نصير بن يحيى : هو طاهر وقال محمد بن سلمة هو نجس وكذا روي عن أبي يوسف ، وجه قول نصير أن تحت الأرض ماء جار فيختلط الغائر به ، فلا يحكم بكون العائد نجسا بالشك وجه قول محمد بن سلمة أن ما نبع يحتمل أنه ماء جديد ، ويحتمل أنه الماء النجس فلا يحكم بطهارته بالشك ; وهذا القول أحوط ، والأول أوسع ، هذا إذا كان الماء الراكد له طول وعرض ، فإن كان له طول بلا عرض كالأنهار التي فيها مياه راكدة لم يذكر في ظاهر الرواية ، وعن أبي نصر محمد بن محمد بن سلام أنه إن كان طول الماء مما لا يخلص بعضه إلى بعض يجوز التوضؤ به ، وكان يتوضأ في نهر بلخ ويحرك الماء بيده ويقول : لا فرق بين إجرائي إياه ، وبين جريانه بنفسه ، فعلى قوله لو وقعت فيه نجاسة لا ينجس ما لم يتغير لونه أو طعمه أو ريحه .

                                                                                                                                وعن أبي سليمان الجوزجاني أنه قال : لا يجوز التوضؤ فيه ، وعلى قوله لو وقعت فيه نجاسة أو بال فيه إنسان أو توضأ ، إن كان في أحد الطرفين ينجس مقدار عشرة أذرع ، وإن كان في وسطه ينجس من كل جانب مقدار عشرة أذرع فما ذهب إليه أبو نصر أقرب إلى الحكم ; لأن اعتبار العرض يوجب التنجيس واعتبار الطول لا يوجب ، فلا ينجس بالشك ، وما قاله أبو سليمان أقرب إلى الاحتياط لأن اعتبار الطول إن كان لا يوجب التنجيس فاعتبار العرض يوجب ، فيحكم بالنجاسة احتياطا وأما العمق فهل يشترط مع الطول والعرض ؟ عن أبي سليمان الجوزجاني أنه قال : إن أصحابنا اعتبروا البسط دون العمق ، وعن الفقيه أبي جعفر الهندواني إن كان بحال لو رفع إنسان الماء بكفيه انحسر أسفله ، ثم اتصل لا يتوضأ به ، وإن كان بحال لا ينحسر أسفله لا بأس بالوضوء منه وقيل : مقدار العمق أن يكون زيادة على عرض الدرهم الكبير المثقال ، وقيل : أن يكون قدر شبر ، وقيل : قدر ذراع ، ثم النجاسة إذا وقعت في الحوض الكبير كيف يتوضأ منه ؟ فنقول : النجاسة لا تخلو إما أن تكون مرئية ، أو غير مرئية ، فإن كانت مرئية كالجيفة ونحوها ، ذكر في ظاهر الرواية أنه لا يتوضأ من الجانب الذي وقعت فيه النجاسة ، ولكن يتوضأ من الجانب الآخر ، ومعناه أنه يترك من موضع النجاسة قدر الحوض الصغير ثم يتوضأ ، كذا فسره في الإملاء عن أبي حنيفة ; لأنا تيقنا بالنجاسة في ذلك الجانب وشككنا فيما وراءه ، وعلى هذا قالوا فيمن استنجى في موضع من حوض الحمام : لا يجزيه أن يتوضأ من ذلك الموضع قبل تحريك الماء .

                                                                                                                                وروي عن أبي يوسف أنه يجوز التوضؤ من أي جانب كان إلا إذا تغير لونه أو طعمه أو ريحه ; لأن حكمه حكم الماء الجاري .

                                                                                                                                ولو وقعت الجيفة في وسط الحوض - على قياس ظاهر الرواية - إن كان بين الجيفة وبين كل جانب من الحوض مقدار ما لا يخلص بعضه إلى بعض ، يجوز التوضؤ فيه وإلا فلا ; لما ذكرنا وإن كانت غير مرئية بأن بال فيه إنسان أو اغتسل جنب اختلف فيه المشايخ قال مشايخ العراق : إن حكمه حكم المرئية ، حتى لا يتوضأ من ذلك الجانب ، وإنما يتوضأ من الجانب الآخر لما ذكرنا في المرئية بخلاف الماء الجاري ; لأنه ينقل النجاسة من موضع إلى موضع ، فلم يستيقن بالنجاسة في موضع الوضوء ومشايخنا بما وراء النهر فصلوا بينهما ، ففي غير المرئية أنه يتوضأ من أي جانب كان ، كما قالوا جميعا في الماء الجاري ، وهو الأصح ; لأن غير المرئية لا يستقر في مكان واحد بل ينتقل لكونه مائعا سيالا بطبعه ، فلم نستيقن بالنجاسة في الجانب الذي يتوضأ منه ، فلا نحكم بنجاسته بالشك على الأصل المعهود إن اليقين لا يزول بالشك - بخلاف المرئية - وهذا إذا كان الماء في الحوض غير جامد ، فإن كان جامدا وثقب في موضع منه ، فإن كان الماء غير متصل بالجمد يجوز التوضؤ منه بلا خلاف وإن كان متصلا به فإن كان الثقب واسعا ، بحيث لا يخلص بعضه إلى بعض فكذلك ; لأنه بمنزلة الحوض الكبير ، وإن كان الثقب صغيرا اختلف المشايخ فيه قال نصير بن يحيى وأبو بكر الإسكاف [ ص: 74 ] لا : خير فيه وسئل ابن المبارك فقال : لا بأس به .

                                                                                                                                وقال : أليس الماء يضطرب تحته ؟ وهو قول الشيخ أبي حفص الكبير ; وهذا أوسع والأول أحوط وقالوا : إذا حرك موضع الثقب تحريكا بليغا يعلم عنده أن ما كان راكدا ذهب عن هذا المكان ، وهذا ماء جديد يجوز بلا خلاف .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية