الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( فصل ) :

                                                                                                                                وأما بيان من يفترض عليه قبول تقليد القضاء ، فنقول : إذا عرض القضاء على من يصلح له من أهل البلد ، ينظر إن كان في البلد عدد يصلحون للقضاء ، لا يفترض عليه القبول ، بل هو في سعة من القبول والترك .

                                                                                                                                ( أما ) جواز القبول ; فلأن الأنبياء والمرسلين ، صلوات الله عليهم أجمعين قضوا بين الأمم بأنفسهم ، وقلدوا غيرهم وأمروا بذلك ، فقد بعث [ ص: 4 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذا رضي الله عنه إلى اليمن قاضيا ، وبعث عتاب بن أسيد رضي الله عنه إلى مكة قاضيا ، وقلد النبي عليه الصلاة والسلام كثيرا من أصحابه رضي الله تعالى عنهم الأعمال ، وبعثهم إليها ، وكذا الخلفاء الراشدون قضوا بأنفسهم ، وقلدوا غيرهم ، فقلد سيدنا عمر رضي الله عنه شريحا القضاء ، وقرره سيدنا عثمان ، وسيدنا علي رضي الله عنهما .

                                                                                                                                ( وأما ) جواز الترك ; فلما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه { قال لأبي ذر رضي الله عنه : إياك والإمارة } وروي عنه عليه الصلاة والسلام { أنه قال : لا تتأمرن على اثنين ، } وروي أن أبا حنيفة رضي الله عنه عرض عليه القضاء ، فأبى حتى ضرب على ذلك ولم يقبل ، وكذا لم يقبله كثير من صالحي الأمة ، وهذا معنى ما ذكر في الكتاب ، دخل فيه قوم صالحون وترك الدخول فيه قوم صالحون ، ثم إذا جاز الترك والقبول في هذا الوجه ، اختلفوا في أن القبول أفضل أم الترك قال بعضهم : الترك أفضل ، وقال بعضهم : القبول أفضل ، احتج الفريق الأول بما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال : { من جعل على القضاء فقد ذبح بغير سكين ، } وهذا يجري مجرى الزجر عن تقلد القضاء ، احتج الفريق الآخر بصنع الأنبياء والمرسلين - صلوات الله عليهم أجمعين - وصنع الخلفاء الراشدين ; لأن لنا فيهم قدوة ; ولأن القضاء بالحق إذا أراد به وجه الله سبحانه وتعالى ; يكون عبادة خالصة بل هو من أفضل العبادات ، قال النبي المكرم عليه أفضل التحية : { عدل ساعة خير من عبادة ستين سنة } .

                                                                                                                                والحديث محمول على القاضي الجاهل ، أو العالم الفاسق ، أو الطالب الذي لا يأمن على نفسه الرشوة ، فيخاف أن يميل إليها ، توفيقا بين الدلائل ، هذا إذا كان في البلد عدد يصلحون للقضاء ، فأما إذا كان لم يصلح له إلا رجل واحد ; فإنه يفترض عليه القبول ; إذا عرض عليه ; لأنه إذا لم يصلح له غيره - تعين هو لإقامة هذه العبادة ، فصار فرض عين عليه ، إلا أنه لا بد من التقليد ، فإذا قلد - افترض عليه القبول على وجه لو امتنع من القبول - يأثم ، كما في سائر فروض الأعيان ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية