الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( فصل ) :

                                                                                                                                وأما بيان ما يخرج به القاضي عن القضاء فنقول - وبالله التوفيق : كل ما يخرج به الوكيل عن الوكالة يخرج به القاضي عن القضاء ، وما يخرج به الوكيل عن الوكالة أشياء - ذكرناها في كتاب الوكالة - لا يختلفان إلا في شيء واحد : وهو أن الموكل إذا مات أو خلع ينعزل الوكيل ، والخليفة إذا مات أو خلع لا تنعزل قضاته وولاته .

                                                                                                                                ( ووجه ) الفرق أن الوكيل يعمل بولاية الموكل وفي خالص حقه أيضا ، وقد بطلت أهلية الولاية فينعزل الوكيل ، والقاضي لا يعمل بولاية الخليفة وفي حقه بل بولاية المسلمين وفي حقوقهم ، وإنما الخليفة بمنزلة الرسول عنهم ; لهذا لم تلحقه العهدة ، كالرسول في سائر العقود والوكيل في النكاح ، وإذا كان رسولا كان فعله بمنزلة فعل عامة المسلمين ، وولايتهم بعد موت الخليفة باقية ، فيبقى القاضي على ولايته ; وهذا بخلاف العزل ، فإن الخليفة إذا عزل القاضي أو الوالي ينعزل بعزله ، ولا ينعزل بموته ; لأنه لا ينعزل بعزل الخليفة أيضا حقيقة ، بل بعزل العامة ; لما ذكرنا أن توليته بتولية العامة ، والعامة ولوه الاستبدال دلالة ; لتعلق مصلحتهم بذلك ، فكانت ولايته منهم معنى في العزل أيضا ، فهو الفرق بين العزل والموت .

                                                                                                                                ولو استخلف القاضي بإذن الإمام ، ثم مات القاضي لا ينعزل خليفته ; لأنه نائب الإمام في الحقيقة ، لا نائب القاضي ، ولا ينعزل بموت الخليفة أيضا ، كما لا ينعزل القاضي ; لما قلنا ، ولا يملك القاضي عزل خليفته ; لأنه نائب الإمام ، فلا ينعزل بعزله كالوكيل أنه لا يملك عزل الوكيل الثاني ; لأن الثاني وكيل الموكل في الحقيقة لا وكيله ، كذا ههنا ، إلا إذا أذن له الخليفة أن يستبدل من شاء فيملك عزله ، ويكون ذلك أيضا عزلا من الخليفة لا من القاضي ; لأن القاضي كالوكيل إذا قال له الموكل : اعمل برأيك أنه يملك التوكيل والعزل ، وإذا عزل كان العزل في الحقيقة من الموكل ، كذا هذا .

                                                                                                                                وعلم المعزول بالعزل شرط صحة العزل كما ذكر في الوكالة ، وهل ينعزل بأخذ الرشوة في الحكم ؟ عندنا لا ينعزل لكنه يستحق العزل فيعزله الإمام ويعزره ، كذا ذكر في كتاب الحدود ، وقال مشايخ العراق من أصحابنا : إنه ينعزل وقالوا : صحت الرواية عن أصحابنا رضي الله عنهم أنه ينعزل ، واستدلوا بما ذكر في السير الكبير أنه يخرج من القضاء ، لكن رواية مشايخنا : أنه لا يخرج من القضاء ، وهذه الرواية أولى ; لأن هذه الرواية مشتبهة ، ورواية كتاب الحدود محكمة ; لأنه ذكر أن الإمام يعزله ويعزره فكان فيما قلنا : حمل المحتمل على [ ص: 17 ] المحكم ، فكان عملا بالروايتين جميعا فكان أولى .

                                                                                                                                وهذا عندنا ، وقال الشافعي - عليه الرحمة : ينعزل وهو قول المعتزلة ، ولقب المسألة : أن القاضي إذا فسق هل ينعزل أو لا ؟ فعندنا لا ينعزل ، وعند الشافعي ينعزل ، وبه قالت المعتزلة لكن بناء على أصلين مختلفين : فأصل المعتزلة أن الفسق يخرج صاحبه عن الإيمان فيبطل أهلية القضاء وأصل الشافعي - رحمه الله - أن العدالة شرط أهلية القضاء كما هي شرط أهلية الشهادة ; لأن أهلية القضاء تدور مع أهلية الشهادة ، وقد زالت بالفسق فتبطل الأهلية والأصل عندنا أن الكبيرة لا تخرج صاحبها من الإيمان ، والعدالة ليس بشرط أهلية القضاء ، كما ليست بشرط ; الأهلية الشهادة على ما ذكرنا ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية