الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( وأما ) بيان كيفية الحكم فنقول : ملك المسلم يزول عن ماله باستيلاء الكفار عليه ، ويثبت لهم عندنا على وجه له حق الإعادة ، إما بعوض ، أو بغير عوض ، حتى لو ظهر عليهم المسلمون فأخذوها وأحرزوها بدار الإسلام ، فإن وجده المالك القديم قبل القسمة أخذه بغير شيء ، سواء كان من ذوات القيم أو من ذوات الأمثال ، وإن وجده بعد القسمة فإن كان من ذوات الأمثال لا يأخذه ; لأنه لو أخذه لأخذه بمثله فلا يفيد ، وإن لم يكن من ذوات الأمثال يأخذه بقيمته إن شاء ; لأن الأخذ بالقيمة مراعاة الجانبين : جانب الملك القديم بإيصاله إلى قديم ملكه الخاص المأخوذ منه بغير عوض ، وجانب الغانمين بصيانة ملكهم الخاص عن الزوال من غير عوض .

                                                                                                                                فكان الأخذ بالقيمة نظرا للجانبين ومراعاة الحقين ، بخلاف ما إذا وجده قبل القسمة ، إنه يأخذه بغير شيء ; لأن الثابت للغانمين قبل القسمة بعد الإحراز ليس إلا الحق المتأكد ، أو الملك العام ، فكانت الإعادة إلى قديم الملك رعاية للملك الخاص أولى وقد روي أن بعيرا لرجل من المسلمين استولى عليه أهل الحرب ، ثم ظهر عليهم المسلمون فوجده صاحبه في المغنم ، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه فقال : { إن وجدته قبل القسمة فهو لك بغير شيء ، وإن وجدته بعد القسمة فهو لك بالقيمة } .

                                                                                                                                وكذلك لو كان الحربي باع المأخوذ من المسلمين ، ثم ظهر عليه المسلمون ، فإن المالك القديم يأخذه قبل القسمة بغير شيء ، وبعد القسمة بالقيمة ; لأنه باعه مستحق الإعادة إلى قديم [ ص: 129 ] الملك فبقي كذلك ، ولو كان المستولى عليه مدبرا أو مكاتبا أو أم ولد ، ثم ظهر عليه المسلمون فأخرجوه إلى دار الإسلام ، أخذه المالك القديم بغير شيء قبل القسمة وبعدها ; لأنه حر من وجه ، والحر من وجه أو من كل وجه لا يحتمل التملك بالاستيلاء ، ولهذا لا يحتمله بسائر أسباب الملك ، فإذا حصلوا في أيدي الغانمين وجب ردهم إلى المالك القديم .

                                                                                                                                ولو وهب الحربي ما ملكه بالاستيلاء لرجل من المسلمين ، أخذه المالك القديم بالقيمة إن شاء ; لأن فيه نظرا للجانبين على ما بينا وكذلك لو باعه من مسلم بعوض فاسد ، بأن باع من مسلم عبد المسلم بخمر أو خنزير ، أخذه صاحبه بقيمة العبد ; لأن تسمية الخمر والخنزير لم تصح ، فكان هذا بيعا فاسدا ، والبيع الفاسد مضمون بقيمة المبيع ، فصار كأنه اشتراه بقيمته ، ولو لم يكن العوض فاسدا أخذه بالثمن الذي اشتراه به إن شاء ، إن كان اشتراه بخلاف جنسه ; لأن الأخذ عند اختلاف الجنس مفيد ، وكذلك لو كان اشتراه بجنسه لكن بأقل منه ، فإنه يأخذه بمثل ما اشتراه ، ولا يكون هذا ربا ، لأن الربا فضل مال قصد استحقاقه بالبيع من غير عوض يقابله .

                                                                                                                                والمالك القديم لا يأخذه بطريق البيع ، بل بطريق الإعادة إلى قديم ملكه ، فلا يتحقق الربا ، وإن كان اشتراه بجنسه بمثله قدرا لا يأخذه ; لأنه لا يفيد ولو اشتراه رجل من العدو ثم باعه من رجل آخر ، ثم حضر المالك القديم أخذه من الثاني بالثمن الثاني ، وليس له أن ينقض البيع الثاني ، ويأخذ بالثمن الأول من المشتري الأول في ظاهر الرواية وروي عن محمد - رحمه الله في النوادر - أن المالك بالخيار إن شاء نقض البيع وأخذه بالثمن الأول ، وإن شاء أخذه بالثمن الثاني .

                                                                                                                                ( وجه ) رواية النوادر أن أخذ المالك القديم تملك ببدل فأشبه حق الشفعة ، ثم حق الشفيع مقدم على حق المشتري ، فكذا حقه والجامع أن حق كل واحد منهما سابق على حق المشتري ، والسبق من أسباب الترجيح .

                                                                                                                                وجه ظاهر الرواية أنه لا ملك للمالك القديم في المحل بوجه ، بل هو زائل من كل وجه ، وإنما الثابت له حق الإعادة ، وإنه ليس بمعنى في المحل ، فلا يمنع جواز البيع ، فلا يملك نقضه بخلاف حق الشفعة ، فإن الشفيع يتملك نقض المشفوع فيقتضي الأخذ بالشفعة بتمليك البائع منه على ما عرف ، وعلى هذا الأصل إذا علم المالك القديم بشراء المأسور ، وترك الطلب زمانا لا يبطل حقه ; لأن هذا الأخذ ليس في معنى الأخذ بالشفعة ليشترط له الطلب على سبيل المواثبة ، وعلى قياس ما روي عن محمد - رحمه الله - يبطل كما يبطل حق الشفعة بترك الطلب على المواثبة .

                                                                                                                                وكذلك هذا الحق يورث في ظاهر الرواية ، حتى لو مات المالك القديم ، كان لورثته أن يأخذوه ، وعلى قياس ما روي عن محمد - رحمه الله - لا يورث كما لا يورث حق الشفعة والصحيح جواب ظاهر الرواية ; لأن هذا الأخذ ليس ابتداء تملك ، بل هو إعادة إلى قديم الملك ، بخلاف الأخذ بالشفعة ، وحق الإعادة إلى قديم الملك مما يحتمل الإرث كحق الرد بالعيب ، وليس لبعض الورثة أن يأخذوا ذلك دون البعض ; لأنه حق ثبت للكل فلا ينفرد به البعض ، ولو اشترى المأسور رجل فأدخله دار الإسلام ، ثم اشتراه العدو ثانيا ، فاشتراه رجل آخر ، فأدخله دار الإسلام ، فالمشتري الأول أحق من المالك القديم ، وليس للمالك القديم أن يأخذه من المشتري الثاني ; لأنه لما أسر من يد المشتري الأول نزل المشتري الأول منزلة المالك القديم ، فكان حق الأخذ له .

                                                                                                                                لكن إذا أخذه المشتري الأول فللمالك القديم أن يأخذه بالثمنين إن شاء أو يدع ; لأنه لما أخذه المشتري الأول بالثمن فقد قام عليه بالثمنين ، فكأنه اشتراه بهذا القدر من المال ولم يوجد الأسر أصلا ، ولو أعتق الحربي العبد المأسور في دار الحرب ، أو دبره ، أو كاتبه ، أو كانت له أمة فاستولدها ، ثم ظهر المسلمون عليها ، فذلك كله جائز ، وعتقت هي وأولادها ، وكذا المدبر والمكاتب .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية