الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                وأما الإلمام الفاسد الذي لا يمنع صحة التمتع فهو أن يسوق الهدي ، فإذا فرغ من العمرة عاد إلى وطنه فلا يبطل تمتعه في قول أبي حنيفة وأبي يوسف ، حتى لو عاد إلى مكة فأحرم بالحج وحج من عامه ذلك ، كان متمتعا في قولهما .

                                                                                                                                وعند محمد يبطل تمتعه حتى لو حج من عامه ذلك : لم يكن متمتعا .

                                                                                                                                وجه قول محمد : أن المانع من صحة التمتع وهو الإلمام بالأهل قد وجد ، والعود غير مستحق عليه بدليل أنه لو بدا له من التمتع جاز له ذبح الهدي ههنا ، وإذا لم يستحق عليه العود [ ص: 171 ] صار كأن لم يسق الهدي .

                                                                                                                                ولو لم يسق الهدي يبطل تمتعه كذا هذا ، ولهما أن العود مستحق عليه ما دام على نية التمتع فيمنع صحة الإلمام ، فلا يبطل تمتعه كالقارن إذا عاد إلى أهله ثم ما ذكرنا من بطلان التمتع بالإلمام الصحيح إذا عاد إلى أهله ، فأما إذا عاد إلى غير أهله بأن خرج من الميقات ولحق بموضع لأهله القران والتمتع كالبصرة مثلا أو نحوها ، واتخذ هناك دارا أو لم يتخذ ، توطن بها أو لم يتوطن ثم عاد إلى مكة ، وحج من عامه ذلك ، فهل يكون متمتعا ؟ ذكر في الجامع الصغير أنه يكون متمتعا ، ولم يذكر الخلاف ، وذكر القاضي أيضا أنه يكون متمتعا في قولهم .

                                                                                                                                وذكر الطحاوي أنه يكون متمتعا في قول أبي حنيفة ، وهذا وما إذا أقام بمكة ولم يبرح منها سواء .

                                                                                                                                وأما في قول أبي يوسف ، ومحمد فلا يكون متمتعا ، ولحوقه بموضع لأهله التمتع والقران ، ولحوقه بأهله سواء .

                                                                                                                                وجه قولهما أنه لما جاوز الميقات ، ووصل إلى موضع لأهله التمتع والقران فقد بطل حكم السفر الأول ، وخرج من أن يكون من أهل مكة لوجود إنشاء سفر آخر ، فلا يكون متمتعا كما لو رجع إلى أهله ، ولأبي حنيفة أن وصوله إلى موضع لأهله القران والتمتع لا يبطل السفر الأول ، ما لم يعد إلى منزله ; لأن المسافر ما دام يتردد في سفره يعد ذلك كله منه سفرا واحدا ما لم يعد إلى منزله ، ولم يعد ههنا فكان السفر الأول قائما فصار كأنه لم يبرح من مكة فيكون متمتعا ، ويلزمه هدي المتعة .

                                                                                                                                ولو أحرم بالعمرة في أشهر الحج ثم أفسدها وأتمها على الفساد وحل منها ، ثم أحرم بالحج وحج من عامه ذلك قبل أن يقضيها : لم يكن متمتعا ; لأنه لا يصير متمتعا إلا بحصول العمرة والحجة ، ولما أفسد العمرة فلم تحصل له العمرة والحجة فلا يكون متمتعا .

                                                                                                                                ولو قضى عمرته وحج من عامه ذلك ، فهذا لا يخلو من ثلاثة أوجه : فإن فرغ من عمرته الفاسدة وحل منها ورجع إلى أهله ، ثم عاد إلى مكة ، وقضى عمرته ، وأحرم بالحج ، وحج من عامه ذلك فإنه يكون متمتعا بالإجماع ; لأنه لما لحق بأهله صار من أهل التمتع ، وقد أتى به فكان متمتعا ، وإذا فرغ من عمرته الفاسدة ، وحل منها لكنه لم يخرج من الحرم أو خرج منه لكنه لم يجاوز الميقات حتى قضى عمرته ، وأحرم بالحج ، لا يكون متمتعا بالإجماع ; لأنه لما حل من عمرته الفاسدة صار كواحد من أهل مكة ، ولا تمتع لأهل مكة ويكون مسيئا وعليه لإساءته دم ، وإن فرغ من عمرته الفاسدة ، وحل منها ، وخرج من الحرم ، وجاوز الميقات حتى قضى عمرته ، ولحق بموضع لأهله التمتع والقران كالبصرة وغيرها ، ثم رجع إلى مكة ، وقضى عمرته الفاسدة ثم أحرم بحج ، وحج من عامه ذلك لم يكن متمتعا في قول أبي حنيفة ، كأنه لم يبرح من مكة ، وفي قول أبي يوسف ، ومحمد يكون متمتعا كأنه لحق بأهله .

                                                                                                                                وجه قولهما أنه لما حصل في موضع لأهله التمتع والقران صار من أهل ذلك الموضع ، وبطل حكم ذلك السفر ، ثم إذا قدم مكة كان هذا إنشاء سفر ، وقد حصل له نسكان في هذا السفر ، وهو عمرة وحجة فيكون متمتعا كما لو رجع إلى أهله ثم عاد إلى مكة ، وقضى عمرته في أشهر الحج وأحرم بالحج ، وحج من عامه ذلك أنه يكون متمتعا ، كذا هذا ، بخلاف ما إذا اتخذ مكة دارا ; لأنه صار من أهل مكة ، ولا تمتع لأهل مكة ، ولأبي حنيفة : أن حكم السفر الأول باق ; لأن الإنسان إذا خرج من وطنه مسافرا فهو على حكم السفر ما لم يعد إلى وطنه ، وإذا كان حكم السفر الأول باقيا ، فلا عبرة بقدومه البصرة ، واتخاذه دارا بها ، فصار كأنه أقام بمكة لم يبرح منها حتى قضى عمرته الفاسدة ، وإذا كان كذلك لم يكن متمتعا ، ولم يلزمه الدم ; لأنه لما أفسد العمرة لزمه أن يقضيها من مكة ، وهو أن يحرم بالعمرة من ميقات أهل مكة للعمرة ، وذلك دليل إلحاقه بأهل مكة ، فصارت عمرته وحجته مكيتين لصيرورة ميقاته للحج والعمرة ميقات أهل مكة ، فلا يكون متمتعا لوجود الإلمام بمكة كما فرغ من عمرته ، وصار كالمكي إذا خرج إلى أقرب الآفاق ، وأحرم بالعمرة ثم عاد إلى مكة ، وأتى بالعمرة ثم أحرم بالحج ، وحج من عامه ذلك لم يكن متمتعا ، كذا هذا بخلاف ما إذا رجع إلى وطنه ; لأنه إذا رجع إلى وطنه فقد قطع حكم السفر الأول بابتداء سفر آخر فانقطع حكم كونه بمكة ، فبعد ذلك إذا أتى مكة وقضى العمرة ، وحج فقد حصل له النسكان في سفر واحد فصار متمتعا ، هذا إذا أحرم بالعمرة في أشهر الحج ثم أفسدها وأتمها على الفساد .

                                                                                                                                فأما إذا أحرم بها قبل أشهر الحج ثم أفسدها وأتمها على الفساد ، فإن لم يخرج من الميقات حتى دخل أشهر الحج ، وقضى عمرته في أشهر الحج ثم أحرم بالحج ، وحج من عامه ذلك ، فإنه لا يكون متمتعا بالإجماع ، وحكمه كمكي تمتع ; لأنه صار كواحد من [ ص: 172 ] أهل مكة لما ذكرنا ، ويكون مسيئا ، وعليه لإساءته دم ، وإن عاد إلى أهله ثم عاد إلى مكة محرما بإحرام العمرة ، وقضى عمرته في أشهر الحج ثم أحرم بالحج ، وحج من عامه ذلك يكون متمتعا بالإجماع لما مر .

                                                                                                                                وإن عاد إلى غير أهله ، ولحق بموضع لأهله التمتع والقران ، ثم عاد إلى مكة محرما بإحرام العمرة وقضى عمرته في أشهر الحج ، ثم أحرم بالحج ، وحج من عامه ذلك .

                                                                                                                                فهذا على وجهين في قول أبي حنيفة ، في وجه يكون متمتعا ، وهو ما إذا رأى هلال شوال خارج الميقات ثم عاد إلى مكة محرما بإحرام العمرة ، وقضى عمرته في أشهر الحج ثم أحرم بالحج ، وحج من عامه ذلك ، وفي وجه لا يكون متمتعا ، وهو ما إذا رأى هلال شوال داخل الميقات .

                                                                                                                                وعند أبي يوسف ومحمد يكون متمتعا في الوجهين جميعا ، لهما أن لحوقه بذلك الموضع بمنزلة لحوقه بأهله .

                                                                                                                                ولو لحق بأهله يكون متمتعا فكذا هذا .

                                                                                                                                ولأبي حنيفة أن في الوجه الأول أدركته أشهر الحج ، وهو من أهل التمتع ; لأنها أدركته خارج الميقات ، وفي الوجه الثاني أدركته ، وهو ليس من أهل التمتع لكونه ممنوعا شرعا عن التمتع ، ولا يزول المنع حتى يلحق بأهله .

                                                                                                                                ولو اعتمر في أشهر الحج ثم عاد إلى أهله قبل أن يحل من عمرته ، وألم بأهله وهو محرم ثم عاد إلى مكة بذلك الإحرام ، وأتم عمرته ثم حج من عامه ذلك فهذا على ثلاثة أوجه ، فإن كان طاف لعمرته شوطا أو شوطين أو ثلاثة أشواط ثم عاد إلى أهله وهو محرم ، ثم رجع إلى مكة بذلك الإحرام ، وأتم عمرته ، وحج من عامه ذلك فإنه يكون متمتعا بالإجماع ، وإن اعتمر ، وحل من عمرته ثم عاد إلى أهله حلالا ، ثم عاد إلى مكة ، وحج من عامه ذلك ، لا يكون متمتعا بالإجماع ; لأن إلمامه بأهله صحيح ، وأنه يمنع التمتع ، وإن رجع إلى أهله بعد ما طاف أكثر طواف عمرته أو كله ، ولم يحل بعد ذلك ، وألم بأهله محرما ثم عاد ، وأتم بقية عمرته ، وحج من عامه ذلك ، فإنه يكون متمتعا في قول أبي حنيفة ، وأبي يوسف ، وفي قول محمد لا يكون متمتعا ، وجه قوله : أنه أدى العمرة بسفرين ، وأكثرها حصل في السفر الأول ، وهذا يمنع التمتع ، ولهما أن إلمامه بأهله لم يصح بدليل أنه يباح له العود إلى مكة بذلك الإحرام من غير أن يحتاج إلى إحرام جديد ، فصار كأنه أقام بمكة

                                                                                                                                وكذا لو اعتمر في أشهر الحج ، ومن نيته التمتع ، وساق الهدي لأجل تمتعه فلما فرغ منها عاد إلى أهله محرما ثم عاد ، وحج من عامه ذلك فإنه يكون متمتعا في قولهما ; لأن إلمامه بأهله لم يصح ، فصار كأنه أقام بمكة .

                                                                                                                                وعند محمد لا يكون متمتعا .

                                                                                                                                ولو خرج المكي إلى الكوفة فأحرم بها للعمرة ثم دخل مكة فأحرم بها للحج لم يكن متمتعا ; لأنه حصل له الإلمام بأهله بين الحجة والعمرة ، فمنع التمتع كالكوفي إذا رجع إلى أهله ، وسواء ساق الهدي أو لم يسق ، يعني إذا أحرم بالعمرة بعد ما خرج إلى الكوفة ، وساق الهدي لم يكن متمتعا ، وسوقه الهدي لا يمنع صحة إلمامه بخلاف الكوفي ; لأن الكوفي إنما يمنع سوق الهدي صحة إلمامه ; لأن العود مستحق عليه .

                                                                                                                                فأما المكي فلا يستحق عليه العود ، فصح إلمامه مع السوق كما يصح مع عدمه .

                                                                                                                                ولو خرج المكي إلى الكوفة فقرن صح قرانه ; لأن القران يحصل بنفس الإحرام ، فلا يعتبر فيه الإلمام فصار بعوده إلى مكة كالكوفي إذا قرن ثم عاد إلى الكوفة .

                                                                                                                                وذكر ابن سماعة عن محمد أن قران المكي بعد خروجه إلى الكوفة إنما يصح إذا كان خروجه من مكة قبل أشهر الحج .

                                                                                                                                فأما إذا دخلت عليه أشهر الحج ، وهو بمكة ثم خرج إلى الكوفة فقرن لم يصح قرانه ; لأنه حين دخول الأشهر عليه كان على صفة لا يصح له التمتع ، ولا القران في هذه السنة ; لأنه في أهله ، فلا يتغير ذلك بالخروج إلى الكوفة ، وفي نوادر ابن سماعة عن محمد فيمن أحرم بعمرة في رمضان ، وأقام على إحرامه إلى شوال من قابل ثم طاف لعمرته في العام القابل من شوال ثم حج في ذلك العام أنه متمتع ; لأنه باق على إحرامه ، وقد أتى بأفعال العمرة والحج في أشهر الحج ، فصار كأنه ابتدأ الإحرام بالعمرة في أشهر الحج ، وحج من عامه ذلك .

                                                                                                                                ولو فعل ذلك كان متمتعا كذا هذا ، وبمثله من وجب عليه أن يتحلل من الحج بعمرة فأخر إلى العام القابل فتحلل بعمرة في شوال ، وحج من عامه ذلك لا يكون متمتعا ; لأنه ما أتى بأفعال العمرة لها ، بل للتحلل عن إحرام الحج ، فلم تقع هذه الأفعال معتدا بها عن العمرة فلم يكن متمتعا بخلاف الفصل الأول .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية