الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر ملك ابنه سابور ذي الأكتاف

وهو سابور بن هرمز بن نرسي بن بهرام بن هرمز بن سابور بن أردشير بن بابك ، وقيل : ملك بوصية أبيه له ، فاستبشر الناس بولادته وبثوا خبره في الآفاق ، وتقلد الوزراء والكتاب ما كانوا يعملونه في ملك أبيه .

وسمع الملوك أن ملك الفرس صغير في المهد ، فطمعت في مملكتهم الترك والعرب والروم ، وكانت العرب أقرب إلى بلاد فارس ، فسار جمع عظيم منهم في البحر من عبد القيس والبحرين إلى بلاد فارس وسواحل أردشير خرة ، وغلبوا أهلها على مواشيهم ومعايشهم ، وأكثروا الفساد ، وغلبت إياد على سواد العراق وأكثروا الفساد فيهم ، فمكثوا حينا لا يغزوهم أحد من الفرس لصغر ملكهم .

فلما ترعرع سابور وكبر كان أول ما عرف من حسن فهمه أنه سمع في البحر ضوضاء وأصواتا فسأل عن ذلك فقيل : إن الناس يزدحمون في الجسر الذي على دجلة مقبلين ومدبرين ، فأمر بعمل جسر آخر يكون أحدهما للمقبلين والآخر للمدبرين ، فاستبشر الناس بذلك .

[ ص: 359 ] فلما بلغ ست عشرة سنة وقوي على حمل السلاح ، جمع رؤساء أصحابه فذكر لهم ما اختل من أمرهم ، وأنه يريد الذب عنهم ويشخص إلى بعض الأعداء ، فدعا له الناس وسألوه أن يقيم بموضعه ويوجه القواد والجنود ليكفوه ما يريد ، فأبى واختار من عسكره ألف رجل ، فسألوه الازدياد ، فلم يفعل ، وسار بهم ونهاهم على الإبقاء على أحد من العرب ، وقصد بلاد فارس فأوقع بالعرب وهم غارون فقتل وأسر وأكثر . ثم قطع البحر إلى الخط فقتل من بالبحرين لم يلتفت إلى غنيمة ، وسار إلى هجر وبها ناس من تميم وبكر بن وائل وعبد القيس ، فقتل منهم حتى سالت دماؤهم على الأرض ، وأباد عبد القيس ، وقصد اليمامة وأكثر في أهلها القتل ، وغور مياه العرب ، وقصد بكرا وتغلب فيما بين مناظر الشام والعراق فقتل وسبى ، وغور مياههم ، وسار إلى قرب المدينة ففعل كذلك ، وكان ينزع أكتاف رؤسائهم ويقتلهم إلى أن هلك فسموه سابور ذا الأكتاف لهذا .

وانتقلت إياد حينئذ إلى الجزيرة ، وصارت تغير على السواد ، فجهز سابور إليهم الجيوش ، وكان لقيط الإيادي معهم ، فكتب إلى إياد :

سلام في الصحيفة من لقيط إلى من بالجزيرة من إياد .

    بأن الليث كسرى قد أتاكم
فلا يشغلكم سوق النقاد .

[ ص: 360 ]     أتاكم منهم سبعون ألفا
يزجون الكتائب كالجراد

.

فلم يقبلوا منه وداموا على الغارة ، فكتب إليهم أيضا :


أبلغ إيادا وطول في سراتهم أني     أرى الرأي إن لم أعص قد نصعا

.

وهي قصيدة مشهورة من أجود ما قيل في صفة الحرب . فلم يحذروا ، وأوقع بهم سابور وأبادهم قتلا إلا من لحق بأرض الروم . فهذا فعله بالعرب .

وأما الروم فإن سابور كان هادن ملكهم ، وهو قسطنطين ، وهو أول من تنصر من ملوك الروم ، ونحن نذكر سبب تنصره عند الفراغ من ذكر سابور إن شاء الله . ومات قسطنطين وفرق ملكه بين ثلاثة بنين كانوا له ، فملكوا ، وملكت الروم عليهم رجلا من أهل بيت قسطنطين يقال له إليانوس ، وكان على ملة الروم الأولى ويكتم ذلك ، فلما ملك أظهر دينه ، وأعاد ملة الروم ، وأخرب البيع وقتل الأساقفة ، ثم جمع جموعا من الروم والخزر وسار نحو سابور .

واجتمعت العرب للانتقام من سابور ، فاجتمع في عسكر إليانوس منهم خلق كثير ، وعادت عيون سابور إليه فاختلفوا في الأخبار ، فسار سابور بنفسه مع جماعة من ثقاته نحو الروم ، فلما قرب من يوسانوس ، وهو على مقدمة إليانوس ، اختفى وأرسل بعض من معه إلى الروم ، فأخذوا وأقر بعضهم على سابور ، فأرسل يوسانوس إليه سرا ينذره ، فارتحل سابور إلى عسكره ، وتحارب هو والعرب والروم ، فانهزم عسكره وقتل منهم مقتلة عظيمة ، وملكت الروم مدينة طيسفون ، وهي المدائن الشرقية ، وملكوا أيضا أموال سابور وخزائنه .

[ ص: 361 ] وكتب سابور إلى جنوده وقواده يعلمهم ما لقي من الروم والعرب ، ويستحثهم على المسير إليه ، فاجتمعوا إليه وعاد واستنقذ مدينة طيسفون ، ونزل إليانوس مدينة بهرسير ، واختلف الرسل بينهما ، فبينما إليانوس جالس أصابه سهم لا يعرف راميه فقتله ، فسقط في أيدي الروم ، ويئسوا من الخلاص من بلاد الفرس ، فطلبوا من يوسانوس أن يملك عليهم ، فلم يفعل وأبى إلا أن يعودوا إلى النصرانية ، فأخبروه أنهم على ملته ، وإنما كتموا ذلك خوفا من إليانوس . فملك عليهم .

وأرسل سابور إلى الروم يتهددهم ، ويطلب الذي ملك عليهم ليجتمع به ، فسار إليه يوسانوس في ثمانين رجلا ، فتلقاه سابور وتساجدا وطعما ، وقوى سابور أمر يوسانوس بجهده ، وقال للروم : إنكم أخربتم بلادنا وأفسدتم فيها ، فإما أن تعطونا قيمة ما أهلكتم وإما أن تعوضونا نصيبين ، وكانت قديما للفرس ، فغلبت الروم عليها ، فدفعوها إليهم ، وتحول أهلها عنها ، فحول إليها سابور اثني عشر ألف بيت من أهل إصطخر وأصبهان وغيرهما ، وعادت الروم إلى بلادهم ، وهلك ملكهم بعد ذلك بيسير .

وقيل : إن سابور سار إلى حد الروم وأعلم أصحابه أنه على قصد الروم مختفيا لمعرفة أحوالهم وأخبار مدنهم ، وسار إليهم ، فجال فيهم حينا ، وبلغه أن قيصر أولم وجمع الناس فحضر بزي سائل لينظر إلى قيصر على الطعام ، ففطن به وأخذ وأدرج في جلد ثور .

وسار قيصر بجنوده إلى أرض فارس ومعه سابور على تلك الحال ، فقتل وأخرب حتى بلغ جنديسابور ، فتحصن أهلها وحاصرها ، فبينما هو يحاصرها إذ غفل الموكلون بحراسة سابور ، وكان بقربه قوم من سبي الأهواز ، فأمرهم أن يلقوا على القد الذي عليه زيتا كان بقربهم ، ففعلوا ، ولان الجلد وانسل منه وسار إلى المدينة وأخبر حراسها فأدخلوه ، فارتفعت أصوات أهلها ، فاستيقظ الروم ، وجمع سابور من بها وعباهم ، وخرج إلى الروم سحر تلك الليلة ، فقتلهم وأسر قيصر وغنم أمواله ونساءه وأثقله بالحديد ، وأمره بعمارة ما أخرب ، وألزمه بنقل التراب من بلد الروم ليبني ما هدم المنجنيق من جنديسابور ، وأن يغرس الزيتون مكان النخل ، ثم قطع عقبه وبعث به إلى الروم على حمار وقال : هذا جزاؤك ببغيك علينا ، فأقام مدة ثم غزا فقتل وسبى سبايا أسكنهم مدينة بناها بناحية السوس سماها إيران شهر سابور ، وبنى مدينة نيسابور بخراسان في [ ص: 362 ] قول ، وبالعراق بزرج سابور . وكان ملكه اثنتين وسبعين سنة .

وهلك في أيامه امرؤ القيس بن عمرو بن عدي عامله على العرب ، فاستعمل ابنه عمرو بن امرئ القيس ، فبقي في عمله بقية ملك سابور وجميع أيام أخيه أردشير بن هرمز وبعض أيام سابور بن سابور .

وكانت ولايته ثلاثين سنة .

التالي السابق


الخدمات العلمية