الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر البيعة للمعتز بالله

وفي هذه السنة بويع المعتز بالله ، وكان سبب البيعة له أنه لما استقر المستعين ببغداذ أتاه جماعة من قواد الأتراك المشغبين ، فدخلوا عليه ، وألقوا أنفسهم بين يديه ، وجعلوا مناطقهم في أعناقهم تذللا وخضوعا ، وسألوه الصفح عنهم والرضا .

قال لهم : أنتم أهل بغي وفساد ، واستقلال للنعم ، ألم ترفعوا إلي في أولادكم فألحقهم بكم ، وهم نحوا من ألفي غلام ، وفي بناتكم ، فأمرت بتصييرهن في عداد المتزوجات ، وهن نحوا من أربعة آلاف ، وغير ذلك كله أجبتكم إليه ، وأدررت عليكم [ ص: 211 ] الأرزاق ، فعملتم آنية الذهب والفضة ، ومنعت نفسي لذتها وشهوتها إرادة لصلاحكم ورضاكم ، وأنتم تزدادون بغيا وفسادا ، فعادوا وتضرعوا ، وسألوه العفو ، فقال المستعين : قد عفوت عنكم ورضيت .

فقال له أحدهم ، واسمه بابي بك : فإن كنت قد رضيت فقم فاركب معنا إلى سامرا ، فإن الأتراك ينتظرونك ، فأمر محمد بن عبد الله بعض أصحابه فقام إليه فضربه ، وقال محمد : هكذا يقال لأمير المؤمنين قم فاركب معنا ! فضحك المستعين وقال : هؤلاء قوم عجم لا يعرفون حدود الكلام .

وقال لهم المستعين : ترجعون إلى سامرا ، فإن أرزاقكم دارة عليكم ، وأنظر أنا في أمري ، فانصرفوا آيسين منه ، وأغضبهم ما كان من محمد بن عبد الله إلى بابي بك ، وأخبروا من وراءهم خبرهم ، وزادوا ، وحرفوا تحريضا لهم على خلعه ، فاجتمع رأيهم على إخراج المعتز ، ( وكان هو والمؤيد في حبس الجوسق ، وعليهما من يحفظهما ، فأخرجوا المعتز ) من الحبس ، وأخذوا من شعره ، وكان قد كثر ، وبايعوا له بالخلافة ، وأمر للناس برزق عشرة أشهر للبيعة ، فلم يتم المال ، فأعطوا شهرين لقلة المال عندهم .

وكان المستعين خلف بيت المال بسامرا فيه نحو خمس مائة ألف دينار ، وفي بيت مال أم المستعين قيمة ألف ألف دينار ، وفي بيت مال العباس قيمة ستمائة ألف دينار .

وكان فيمن أحضر للبيعة أبو أحمد بن الرشيد وبه نقرس ، في محفة محمولا ، فأمر بالبيعة فامتنع ، وقال للمعتز : خرجت إلينا طائعا ، فخلعتها وزعمت أنك لا تقوم بها ، فقال المعتز : أكرهت على ذلك ، وخفت السيف . فقال أبو أحمد : ما علمنا أنك أكرهت ، وقد [ ص: 212 ] بايعنا هذا الرجل ، فنريد أن تطلق نساءنا ، وتخرج عن أموالنا ، ولا ندري ما يكون إن تركتني على أمري حتى يجتمع الناس ، وإلا فهذا السيف . فتركه المعتز .

وكان ممن بايع إبراهيم الديرج ، وعتاب بن عتاب ، فأما عتاب فهرب إلى بغداد ، وأما الديرج فأقر على الشرط ، واستعمل على الدواوين ، وبيت المال ، والكتابة وغير ذلك .

ولما اتصل بمحمد بن عبد الله خبر بيعة المعتز وتوجيه العمال أمر بقطع الميرة عن أهل سامرا ، وكتب إلى مالك بن طوق في المسير إلى بغداد هو وأهل بيته وجنده ، وكتب إلى نجوبة بن قيس وهو على الأنبار في الاحتشاد والجمع ، وإلى سليمان بن عمران الموصلي في منع السفن والميرة عن سامرا ، فأخذت سفينة ببغداذ فيها أرز وغيره ، فهرب الملاح ، وبقيت السفينة حتى غرقت .

وأمر المستعين محمد بن عبد الله بتحصين بغداد ، فتقدم في ذلك ، فأدير عليها السور من دجلة من باب الشماسية إلى سوق الثلاثاء ، حتى أورده دجلة وأمر بحفر الخنادق من الجانبين جميعا ، وجعل على كل باب قائدا ، فبلغت النفقة على ذلك جميعه ثلاثمائة ألف وثلاثين ألف دينار ، ونصب على الأبواب المنجنيقات والعرادات ، وشحن الأسوار ، وفرض فرضا للعيارين ، وجعل عليهم عريفا اسمه يبنويه ، وعمل لهم تراسا من البواري المقيرة ، وأعطاهم المخالي ليجعلوا فيها الحجارة للرمي ، وفرض أيضا لقوم من خراسان قدموا حجاجا ، فسئلوا المعونة ، فأعانوا .

وكتب المستعين إلى عمال الخراج بكل بلدة أن يكون حملهم الخراج والأموال إلى بغداد ، لا يحمل منها إلى سامرا شيء ، وكتب إلى الأتراك ، والجند الذين بسامرا ، [ ص: 113 ] يأمرهم بنقض بيعة المعتز ، ومراجعة الوفاء له ، ويذكرهم أياديه عندهم ، وينهاهم عن المعصية والنكث .

ثم جرت بين المعتز ومحمد بن عبد الله مكاتبات ومراسلات يدعو المعتز ( محمدا إلى المبايعة ، ويذكره ما كان المتوكل أخذ له عليه من البيعة بعد المنتصر ، ومحمد يدعو المعتز ) إلى الرجوع إلى طاعة المستعين ، واحتج كل واحد منهما على صاحبه .

وأمر محمد بكسر القناطر ، وشق المياه بسطوح ( الأنبار وبادوريا ليقطع الأتراك عن الأنبار .

وكتب المستعين والمعتز إلى موسى بن بغا ، كل واحد منهما يدعوه إلى نفسه ، وكان بأطراف الشام ، كان خرج لقتال أهل حمص ، فانصرف إلى المعتز ، وصار معه .

وقدم عبد الله بن بغا الصغير من سامرا إلى المستعين ، وكان قد تخلف بعد أبيه ، فاعتذر ، وقال لأبيه : إنما قدمت لأموت تحت ركابك ، فأقام ببغداذ أياما ، ثم هرب إلى سامرا ، فاعتذر إلى المعتز ، وقال : إنما سرت إلى بغداد لأعلم أخبارهم وآتيك بها . فقبله المعتز ، ورده إلى خدمته .

وورد الحسن بن الأفشين بغداد ، فخلع عليه المستعين ، وضم إليه جمعا من الأشروسنية وغيرهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية