الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر خبر ردة اليمن ثانية

وكان ممن ارتد ثانية قيس بن عبد يغوث بن مكشوح ، وذلك أنه لما بلغه موت [ ص: 228 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - عمل في قتل فيروز وجشنس ، وكتب أبو بكر إلى عمر ذي مران ، وإلى سعيد ذي زود ، وإلى الكلاع ، وإلى حوشب ذي ظليم ، وإلى شهر ذي نياف يأمرهم بالتمسك بدينهم والقيام بأمر الله ، ويأمرهم بإعانة الأبناء على من ناوأهم ، والسمع لفيروز ، وكان فيروز وداذويه وقيس قبل ذلك متساندين . فلما سمع قيس بذلك كتب إلى ذي الكلاع وأصحابه يدعوهم إلى قتل الأبناء وإخراج أهلهم من اليمن ، فلم يجيبوه ولم ينصروا الأبناء . فاستعد لهم قيس ، وكاتب أصحاب الأسود المترددين في البلاد سرا ، يدعوهم ليجتمعوا معه ، فجاءوا إليه ، فسمع بهم أهل صنعاء ، فقصد قيس فيروز وداذويه ، فاستشارهما في أمره خديعة منه ليلبس عليهما ، فاطمأنا إليه ، ثم إن قيسا صنع من الغد طعاما ودعا داذويه وفيروز وجشنس ، فخرج داذويه فدخل عليه فقتله ، وجاء إليه فيروز ، فلما دنا منه سمع امرأتين تتحدثان ، فقالت إحداهما : هذا مقتول كما قتل داذويه ، فخرج . فطلبه أصحاب قيس ، فخرج يركض ، ولقيه جشنس فرجع معه ، فتوجها نحو جبل خولان ، وهم أخوال فيروز ، فصعدا الجبل ، ورجعت خيول قيس فأخبروه ، فثار بصنعاء وما حولها ، وأتته خيول الأسود .

واجتمع إلى فيروز جماعة من الناس ، وكتب إلى أبي بكر يخبره ، واجتمع إلى قيس عوام قبائل من كتب أبو بكر إلى رؤسائهم ، واعتزل الرؤساء ، وعمد قيس إلى الأنباء ففرقهم ثلاث فرق : من أقام أقر عياله ، والذين ساروا مع فيروز فرق عيالهم فرقتين ، فوجه إحداها إلى عدن ليحملوا في البحر ، وحمل الأخرى في البر ، وقال لهم جميعهم : الحقوا بأرضكم .

فلما علم فيروز ذلك جد في حربه وتجرد لها ، وأرسل إلى بني عقيل بن ربيعة بن عامر يستمدهم ، وإلى عك يستمدهم ، فركبت عقيل ، فلقوا خيل قيس بن عامر ومعهم عيالات الأبناء الذين كان قد سيرهم قيس ، فاستنقذوهم وقتلوا خيل قيس . وسارت عك فاستنقذوا طائفة أخرى من عيالات الأبناء ، وقتلوا من معهم من أصحاب قيس ، وأمدت عقيل وعك فيروز بالرجال . فلما أتته أمدادهم خرج بهم وبمن اجتمع عنده ، فلقوا قيسا دون صنعاء ، فاقتتلوا قتالا شديدا ، وانهزم قيس وأصحابه ، وتذبذب أصحاب العنسي وقيس معهم فيما بين صنعاء ونجران .

[ ص: 229 ] قيل : وكان فروة بن مسيك قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - مسلما ، فاستعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - على صدقات مراد ، ومن نازلهم ونزل دارهم .

وكان عمرو بن معدي كرب الزبيدي قد فارق قومه سعد العشيرة ، وانحاز إليهم وأسلم معهم ، فلما ارتد العنسي ومعه مذحج ارتد عمرو فيمن ارتد ، وكان عمرو مع خالد بن سعيد بن العاص ، فلما ارتد سار إليه خالد فلقيه ، فضربه خالد على عاتقه فهرب منه ، وأخذ خالد سيفه الصمصامة وفرسه ، فلما ارتد عمرو جعله العنسي بإزاء فروة ، فامتنع كل واحد منهما من البراح لمكان صاحبه . فبينما هم كذلك قدم عكرمة بن أبي جهل أبين من مهرة ، وقد تقدم ذكر قتال مهرة ، ومعه بشر كثير من مهرة وغيرهم ، فاستبرى النخع وحمير ، وقدم أيضا المهاجر بن أبي أمية في جمع من مكة والطائف وبجيلة مع جرير إلى نجران ، فانضم إليه فروة بن مسيك المرادي ، فأقبل عمرو بن معدي كرب مستجيبا ، حتى دخل على المهاجر من غير أمان ، فأوثقه المهاجر ، وأخذ قيسا أيضا فأوثقه ، وسيرهما إلى أبي بكر ، فقال : يا قيس ، قتلت عباد الله ، واتخذت المرتدين وليجة من دون المؤمنين ! فانتفى قيس من أن يكون قارف من أمر داذويه شيئا ، وكان قتله سرا ، فتجافى له عن دمه ، وقال لعمرو : أما تستحي أنك كل يوم مهزوم أو مأسور ؟ لو نصرت هذا الدين لرفعك الله ، فقال : لا جرم ، لأقبلن ولا أعود . ورجعا إلى عشائرهما . فسار المهاجر من نجران والتقت الخيول على أصحاب العنسي ، فاستأمنوا فلم يؤمنهم ، وقتلهم بكل سبيل ، ثم سار إلى صنعاء فدخلها ، وكتب إلى أبي بكر بذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية