الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر ولاية قيس بن سعد مصر

وفي هذه السنة في صفر بعث علي قيس بن سعد أميرا على مصر ، وكان صاحب راية الأنصار مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان من ذوي الرأي والبأس ، فقال له : سر إلى مصر فقد وليتكها واخرج إلى رحلك واجمع إليك ثقاتك ومن أحببت أن يصحبك حتى تأتيها ومعك جند ، فإن ذلك أرعب لعدوك وأعز لوليك ، وأحسن إلى المحسن ، واشتد على المريب ، وارفق بالعامة والخاصة ، فإن الرفق يمن . فقال له قيس : أما قولك : اخرج إليها بجند ، فوالله لئن لم أدخلها إلا بجند آتيها به من المدينة لا أدخلها أبدا ، فأنا أدع ذلك الجند لك ، فإن كنت احتجت إليهم كانوا منك قريبا ، وإن أردت أن تبعثهم إلى وجه من وجوهك كانوا عدة . فخرج قيس حتى دخل مصر في سبعة من أصحابه على الوجه الذي تقدم ذكره ، فصعد المنبر فجلس عليه ، وأمر بكتاب أمير المؤمنين فقرئ على أهل مصر بإمارته ، ويأمرهم بمبايعته ومساعدته وإعانته على الحق ، ثم قام قيس خطيبا وقال :

الحمد لله الذي جاء بالحق وأمات الباطل وكبت الظالمين ، أيها الناس إنا قد بايعنا خير من نعلم بعد نبينا - صلى الله عليه وسلم - فقوموا أيها الناس فبايعوه على كتاب الله وسنة رسوله ، فإن نحن لم نعمل لكم بذلك فلا بيعة لنا عليكم .

فقام الناس فبايعوا واستقامت مصر ، وبعث عليها عماله إلا قرية منها يقال لها خرنبا فيها ناس قد أعظموا قتل عثمان ، عليهم رجل من بني كنانة ، ثم من بني مدلج اسمه يزيد بن الحارث ، فبعث إلى قيس يدعو إلى الطلب بدم عثمان . وكان مسلمة بن مخلد قد أظهر الطلب أيضا بدم عثمان ، فأرسل إليه قيس : ويحك أعلي تثب ! فوالله ما أحب أن لي ملك الشام إلى مصر وأني قتلتك ! فبعث إليه مسلمة : إني كاف عنك ما دمت أنت والي مصر .

وبعث قيس ، وكان حازما ، إلى أهل خرنبا : إني لا أكرهكم على البيعة ، وإني كاف عنكم ، فهادنهم وجبى الخراج ليس أحد ينازعه ، وخرج أمير المؤمنين إلى الجمل [ ص: 624 ] ورجع وهو بمكانه ، فكان أثقل خلق الله على معاوية لقربه من الشام ، ومخافة أن يقبل علي في أهل العراق ، وقيس في أهل مصر ، فيقع بينهما معاوية ، فكتب معاوية إلى قيس :

سلام عليك ، أما بعد فإنكم نقمتم على عثمان ضربة بسوط أو شتيمة رجل أو تسيير آخر واستعمال فتى ، وقد علمتم أن دمه لا يحل لكم ، فقد ركبتم عظيما ، وجئتم أمرا إدا ، فتب إلى الله يا قيس ، فإنك من المجلبين على عثمان ، فأما صاحبك فإنا استيقنا أنه الذي أغرى [ به ] الناس وحملهم حتى قتلوه ، وإنه لم يسلم من دمه عظم قومك ، فإن استطعت يا قيس أن تكون ممن يطالب بدم عثمان فافعل ، وتابعنا على أمرنا ، ولك سلطان العراقين إذا ظهرت ما بقيت ، ولمن أحببت من أهلك سلطان الحجاز ما دام لي سلطان ، وسلني ما شئت ، فإني أعطيك واكتب إلي برأيك .

فلما جاءه الكتاب أن أحب يدافعه ولا يبدي له أمره ، ولا يتعجل إلى حربه ، فكتب إليه : أما بعد فقد فهمت ما ذكرته من قتلة عثمان ، فذلك شيء لم أقاربه ، وذكرت أن صاحبي هو الذي أغرى به حتى قتلوه ، وهذا مما لم أطلع عليه ، وذكرت أن عظم عشيرتي لم تسلم [ من دم عثمان ] ، فأول الناس كان فيه قياما عشيرتي ، وأما ما عرضته من متابعتك ، فهذا أمر لي فيه نظر وفكرة ، وليس هذا مما يسرع إليه ، وأنا كاف عنك ، وليس يأتيك من قبلي شيء تكرهه ، حتى ترى ونرى - إن شاء الله تعالى - .

فلما قرأ معاوية كتابه رآه مقاربا مباعدا ، فكتب إليه :

أما بعد فقد فقرأت كتابك ، فلم أرك تدنو فأعدك سلما ، ولا متباعدا فأعدك حربا ، وليس مثلي يصانع المخادع وينخدع للمكايد ، ومعه عدد الرجال وبيده [ أعنة الخيل ] ، والسلام .

فلما قرأ قيس كتابه ، ورأى أنه لا يفيد معه المدافعة والمماطلة ، أظهر له ما في نفسه ، فكتب إليه : أما بعد فالعجب من اغترارك بي ، وطمعك في ، واستسقاطك إياي ، أتسومني الخروج عن طاعة أولى الناس بالإمارة ، وأقولهم بالحق ، وأهداهم سبيلا ، وأقربهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسيلة ، وتأمرني بالدخول في طاعتك ، طاعة أبعد الناس من [ ص: 625 ] هذا الأمر ، وأقولهم بالزور ، وأضلهم سبيلا ، وأبعدهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسيلة ، ولد ضالين مضلين ، طاغوت من طواغيت إبليس ! وأما قولك إني مالئ عليك مصر خيلا ورجالا ، فوالله إن لم أشغلك بنفسك حتى تكون أهم إليك إنك لذو جد ، والسلام .

فلما رأى معاوية كتابه أيس منه وثقل عليه مكانه ، ولم تنجع حيله فيه ، فكاده من قبل علي ، فقال لأهل الشام : لا تسبوا قيس بن سعد ، ولا تدعوا إلى غزوه ، فإنه لنا شيعة ، قد تأتينا كتبه ونصيحته سرا ، ألا ترون ما يفعل بإخوانكم الذين عنده من أهل خرنبا ، يجري عليهم أعطياتهم وأرزاقهم ويحسن إليهم ! وافتعل كتابا عن قيس إليه بالطلب بدم عثمان ، والدخول معه في ذلك ، وقرأه على أهل الشام .

فبلغ ذلك عليا ، أبلغه ذلك محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر بن أبي طالب ، وأعلمته عيونه بالشام ، فأعظمه وأكبره ، فدعا ابنيه وعبد الله بن جعفر فأعلمهم ذلك . فقال ابن جعفر : يا أمير المؤمنين دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، اعزل قيسا عن مصر . فقال علي : إني والله ما أصدق بهذا عنه . فقال عبد الله : اعزله ، فإن كان هذا حقا لا يعتزل لك . فإنهم كذلك إذ جاءهم كتاب من قيس يخبر أمير المؤمنين بحال المعتزلين وكفه عن قتالهم . فقال ابن جعفر : ما أخوفني أن يكون ذلك ممالأة منه ، فمره بقتالهم . فكتب إليه يأمره بقتالهم ، فلما قرأ الكتاب كتب جوابه : أما بعد فقد عجبت لأمرك تأمرني بقتال قوم كافين عنك مفرغيك لعدوك ! ومتى حاددناهم ساعدوا عليك عدوك ، فأطعني يا أمير المؤمنين واكفف عنهم فإن الرأي تركهم ، والسلام . فلما قرأ علي الكتاب قال ابن جعفر : يا أمير المؤمنين ابعث محمد بن أبي بكر على مصر واعزل قيسا ، فقد بلغني أن قيسا يقول : إن سلطانا لا يستقيم إلا بقتل مسلمة بن مخلد لسلطان سوء .

وكان ابن جعفر أخا محمد بن أبي بكر لأمه ، فبعث علي محمد بن أبي بكر إلى مصر ، وقيل : بعث الأشتر النخعي ، فمات بالطريق ، فبعث محمدا ، فقدم محمد على قيس بمصر ، فقال له قيس : ما بال أمير المؤمنين ؟ ما غيره ؟ أدخل أحد بيني وبينه ؟ قال : لا ، وهذا السلطان سلطانك . قال : لا والله لا أقيم . وخرج منها مقبلا إلى المدينة وهو غضبان لعزله ، فجاءه حسان بن ثابت ، وكان عثمانيا ، يشمت به ، فقال له : قتلت عثمان ونزعك علي ، فبقي عليك الإثم ولم يحسن لك الشكر ! فقال له قيس : يا أعمى [ ص: 626 ] القلب والبصر ! والله لولا أن ألقي بين رهطي ورهطك حربا لضربت عنقك ! اخرج عني ! ثم أخاف مروان بن الحكم قيسا بالمدينة ، فخرج منها هو وسهل بن حنيف إلى علي ، فشهدا معه صفين . فكتب معاوية إلى مروان يتغيظ عليه ويقول له : لو أمددت عليا بمائة ألف مقاتل لكان أيسر عندي من قيس بن سعد في رأيه ومكانه .

فلما قدم قيس على علي وأخبره الخبر ، علم أنه كان يقاسي أمورا عظاما من المكايدة ، وجاءهم خبر قتل محمد بن أبي بكر ، فعظم محل قيس عنده ، وأطاعه في الأمر كله ، ولما قدم محمد مصر قرأ كتاب علي على أهل مصر ثم قام فخطب فقال :

الحمد لله الذي هدانا وإياكم لما اختلف فيه من الحق ، وبصرنا وإياكم كثيرا مما كان عمي عنه الجاهلون . ألا إن أمير المؤمنين ولاني أمركم ، وعهد إلي ما سمعتم ، وما توفيقي إلا بالله ، عليه توكلت وإليه أنيب ، فإن يكن ما ترون من إمارتي وأعمالي طاعة لله فاحمدوا الله على ما كان من ذلك ، فإنه هو الهادي له ، وإن رأيتم عاملا لي عمل بغير الحق فارفعوه إلي وعاتبوني فيه ، فإني بذلك أسعد ، وأنتم [ بذلك ] جديرون ، وفقنا الله وإياكم لصالح الأعمال برحمته .

ثم نزل ، ولبث شهرا كاملا ، حتى بعث إلى أولئك القوم المعتزلين الذين كانوا قد وادعهم قيس ، فقال لهم : إما أن تدخلوا في طاعتنا وإما أن تخرجوا عن بلادنا . فأجابوه : إنا لا نفعل ، فدعنا حتى ننظر إلى ما يصير إليه أمرنا ، فلا تعجل لحربنا . فأبى عليهم ، فامتنعوا [ منه ] وأخذوا حذرهم ، فكانت وقعة صفين وهم هائبون لمحمد .

فلما رجع علي عن معاوية ، وصار الأمر إلى التحكيم ، طمعوا في محمد ، وأظهروا له المبارزة ، فبعث محمد الحارث بن جمهان الجعفي إلى أهل خرنبا ، وفيها يزيد بن الحرث مع بني كنانة ومن معه ، فقاتلهم فقاتلوه وقتلوه . فبعث محمد إليهم أيضا ابن مضاهم الكلبي فقتلوه .

وقد قيل : إنه جرى بين محمد ومعاوية مكاتبات كرهت ذكرها ، فإنها مما لا يحتمل سماعها العامة .

وفيها قدم أبراز مرزبان مرو إلى علي بعد الجمل مقرا بالصلح ، فكتب له كتابا [ ص: 627 ] إلى دهاقين مرو والأساورة ، ومن بمرو ، ثم إنهم كفروا وأغلقوا نيسابور ، فبعث علي خليد بن قرة ، وقيل : ابن طريف اليربوعي ، إلى خراسان .

التالي السابق


الخدمات العلمية