الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر الخبر عن مراسلة الكوفيين الحسين بن علي ليسير إليهم وقتل مسلم بن عقيل

لما خرج الحسين من المدينة إلى مكة لقيه عبد الله بن مطيع فقال له : جعلت فداك ! أين تريد ؟ قال : أما الآن فمكة ، وأما بعد فإني أستخير الله .

قال خار الله لك وجعلنا فداك ! فإذا أتيت مكة فإياك أن تقرب الكوفة فإنها بلدة مشئومة ، بها قتل أبوك وخذل أخوك واغتيل بطعنة كادت تأتي على نفسه ، الزم الحرم فإنك سيد العرب لا يعدل بك أهل الحجاز أحدا ويتداعى إليك الناس من كل جانب ، لا تفارق الحرم ، فداك عمي وخالي ! فوالله لئن هلكت لنسترقن بعدك .

فأقبل حتى نزل مكة وأهلها مختلفون إليه ويأتونه ومن بها من المعتمرين وأهل الآفاق ، وابن الزبير بها قد لزم جانب الكعبة فهو قائم يصلي عندها عامة النهار ويطوف ويأتي الحسين فيمن يأتيه ولا يزال يشير عليه بالرأي ، وهو أثقل خلق الله على ابن الزبير ، لأن أهل الحجاز لا يبايعونه ( ما دام الحسين باقيا ) بالبلد .

ولما بلغ أهل الكوفة موت معاوية وامتناع الحسين وابن عمر وابن الزبير عن البيعة

[ ص: 133 ] أرجفوا بيزيد ، واجتمعت الشيعة في منزل سليمان بن صرد ( الخزاعي ، فذكروا مسير الحسين إلى مكة وكتبوا إليه عن نفر ، منهم : سليمان بن صرد الخزاعي ) ، والمسيب بن نجبة ، ورفاعة بن شداد وحبيب بن مطهر وغيرهم :

بسم الله الرحمن الرحيم ، سلام عليك ، فإننا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، أما بعد فالحمد لله الذي قصم عدوك الجبار العنيد الذي انتزى على هذه الأمة فابتزها أمرها ، وغصبها فيئها ، وتأمر عليها بغير رضى منها ثم قتل خيارها ، واستبقى شرارها ، وإنه ليس علينا إمام فأقبل ؛ لعل الله أن يجمعنا بك على الحق ، والنعمان بن بشير في قصر الإمارة لسنا نجتمع معه في جمعة ولا عيد ، ولو بلغنا إقبالك إلينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام إن شاء الله تعالى ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته .

وسيروا الكتاب مع عبد الله بن سبع الهمداني وعبد الله بن وال ، ثم كتبوا إليه كتابا آخر وسيروه بعد ليلتين ، فكتب الناس معه نحوا من مائة وخمسين صحيفة ثم أرسلوا إليه رسولا ثالثا يحثونه على المسير إليهم ، ثم كتب إليه شبث بن ربعي وحجار بن أبجر ويزيد بن الحارث ويزيد بن رويم وعروة بن قيس وعمرو بن الحجاج الزبيدي ومحمد بن عمير التميمي بذلك .

فكتب إليهم الحسين عند اجتماع الكتب عنده : أما بعد فقد فهمت كل الذي اقتصصتم وقد بعثت إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل وأمرته أن يكتب إلي بحالكم وأمركم ورأيكم ، فإن كتب إلي أنه قد اجتمع رأي ملئكم وذوي الحجى منكم على مثل ما قدمت به رسلكم أقدم إليكم وشيكا إن شاء الله ، فلعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب والقائم بالقسط والدائن بدين الحق ، والسلام .

واجتمع ناس من الشيعة بالبصرة في منزل امرأة من عبد القيس يقال لها مارية بنت سعد ، وكانت تتشيع ، وكان منزلها لهم مألفا يتحدثون فيه .

فعزم يزيد بن نبيط على

[ ص: 134 ] الخروج إلى الحسين ، وهو من عبد القيس ، وكان له بنون عشرة ، فقال : أيكم يخرج معي ؟ فخرج معه ابنان له : عبد الله وعبيد الله ، فساروا فقدموا عليه بمكة ثم ساروا معه فقتلوا معه .

ثم دعا الحسين مسلم بن عقيل فسيره نحو الكوفة وأمره بتقوى الله وكتمان أمره واللطف ، فإن رأى الناس مجتمعين له عجل إليه بذلك .

فأقبل مسلم إلى المدينة فصلى في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وودع أهله واستأجر دليلين من قيس ، فأقبلا به ، فضلا الطريق وعطشوا ، فمات الدليلان من العطش وقالا لمسلم : هذا الطريق إلى الماء .

فكتب مسلم إلى الحسين : إني أقبلت إلى المدينة واستأجرت دليلين فضلا الطريق واشتد عليهما العطش فماتا ، وأقبلنا حتى انتهينا إلى الماء فلم ننج إلا بحشاشة أنفسنا ، وذلك الماء بمكان يدعى المضيق من بطن الخبيت ، وقد تطيرت ، فإن رأيت أعفيتني وبعثت غيري .

فكتب إليه الحسين : أما بعد فقد خشيت أن لا يكون حملك على الكتاب إلي إلا الجبن ، فامض لوجهك ، والسلام .

فسار مسلم حتى أتى الكوفة ونزل في دار المختار ، وقيل غيرها ، وأقبلت الشيعة تختلف إليه ، فكلما اجتمعت إليه جماعة منهم قرأ عليهم كتاب الحسين فيبكون ويعدونه من أنفسهم القتال والنصرة ، واختلفت [ إليه ] الشيعة حتى علم بمكانه وبلغ ذلك النعمان بن بشير ، وهو أمير الكوفة ، فصعد المنبر فقال : أما بعد فلا تسارعو ا إلى الفتنة والفرقة ، فإن فيهما تهلك الرجال وتسفك الدماء وتغصب الأموال .

وكان حليما ناسكا يحب العافية ، ثم قال : إني لا أقاتل من لم يقاتلني ، ولا أثب على من لا يثب علي ، ولا أنبه نائمكم ، ولا أتحرش بكم ، ولا آخذ بالقرف ولا الظنة ولا التهمة ، ولكنكم إن أبديتم صفحتكم ، ونكثتم بيعتكم ، وخالفتم إمامكم فوالله الذي لا إله غيره لأضربنكم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي ، و [ لو ] لم يكن منكم ناصر ولا معين ، أما إني أرجو أن يكون من يعرف الحق منكم أكثر ممن يرديه الباطل .

فقام إليه عبد الله بن مسلم بن سعيد الحضرمي حليف بني أمية فقال : إنه لا يصلح ما ترى إلا الغشم ، إن هذا الذي أنت عليه رأي المستضعفين .

فقال : أكون من [ ص: 135 ] المستضعفين في طاعة الله أحب إلي من أن أكون من الأعزين في معصية الله .

ونزل . فكتب عبد الله بن مسلم إلى يزيد يخبره بقدوم مسلم بن عقيل الكوفة ومبايعة الناس له ، ويقول له : إن كان لك في الكوفة حاجة فابعث إليها رجلا قويا ينفذ أمرك ويعمل مثل عملك في عدوك ، فإن النعمان رجل ضعيف أو هو يتضعف .

وكان هو أول من كتب إليه ، ثم كتب إليه عمارة بن الوليد بن عقبة وعمرو بن سعد بن أبي وقاص بنحو ذلك .

فلما اجتمعت الكتب عند يزيد دعا سرجون مولى معاوية فأقرأه الكتب واستشاره فيمن يوليه الكوفة ، وكان يزيد عاتبا على عبيد الله بن زياد ، فقال له سرجون : أرأيت لو نشر لك معاوية كنت تأخذ برأيه ؟ قال : نعم .

قال : فأخرج عهد عبيد الله على الكوفة .

فقال : هذا رأي معاوية ، ومات وقد أمر بهذا الكتاب .

فأخذ برأيه وجمع الكوفة والبصرة لعبيد الله وكتب إليه بعهده وسيره إليه مع مسلم بن عمرو الباهلي والد قتيبة ، فأمره بطلب مسلم بن عقيل وبقتله أو نفيه .

فلما وصل كتابه إلى عبيد الله أمر بالتجهز ليبرز من الغد .

وكان الحسين قد كتب إلى أهل البصرة نسخة واحدة إلى الأشراف ، فكتب إلى مالك بن مسمع البكري ، والأحنف بن قيس ، والمنذر بن الجارود ، ومسعود بن عمرو ، وقيس بن الهيثم ، وعمر بن عبد الله بن معمر ، يدعوهم إلى كتاب الله وسنة رسوله ، وأن السنة قد ماتت والبدعة قد أحييت ، فكلهم كتموا كتابه إلا المنذر بن الجارود فإنه خاف أن يكون دسيسا من ابن زياد ، فأتاه بالرسول والكتاب فضرب عنق الرسول وخطب الناس وقال :

أما بعد فوالله ما بي تقرن الصعبة ، وما يقعقع لي بالشنان ، وإني لنكل لمن عاداني وسهم لمن حاربني ، وأنصف القارة من راماها ، يا أهل البصرة إن أمير

[ ص: 136 ] المؤمنين قد ولاني الكوفة وأنا غاد إليها بالغداة وقد استخلف عليكم أخي عثمان بن زياد ، فإياكم والخلاف والإرجاف ، فوالله لئن بلغني عن رجل منكم خلاف لأقتلنه وعريفه ووليه ، ولآخذن الأدنى بالأقصى ، حتى تستقيموا ولا يكون فيكم مخالف ولا مشاق ، وإني أنا ابن زياد أشبهته من بين من وطئ الحصى فلم ينتزعني شبه خال ولا ابن عم .

ثم خرج من البصرة ومعه مسلم بن عمرو الباهلي وشريك بن الأعور الحارثي وحشمه وأهل بيته ، وكان شريك شيعيا ، وقيل : كان معه خمسمائة فتساقطوا عنه ، فكان أول من سقط شريك ، ورجوا أن يقف عليهم ويسبقه الحسين إلى الكوفة فلم يقف على أحد منهم حتى دخل الكوفة وحده ، فجعل يمر بالمجالس فلا يشكون أنه الحسين فيقولون : مرحبا بك يا ابن رسول الله ! وهو لا يكلمهم ، وخرج إليه الناس من دورهم ، فساءه ما رأى منهم ، وسمع النعمان فأغلق عليه الباب وهو لا يشك أنه الحسين ، وانتهى إليه عبيد الله ومعه الخلق يصيحون ، فقال له النعمان : أنشدك الله ألا تنحيت عني ! فوالله ما أنا بمسلم إليك أمانتي وما لي في قتالك من حاجة ! فدنا منه عبيد الله وقال له : افتح لا فتحت ! فسمعها إنسان خلفه فرجع إلى الناس وقال لهم : إنه ابن مرجانة .

ففتح له النعمان فدخل ، وأغلقوا الباب وتفرق الناس ، وأصبح فجلس على المنبر ، وقيل : بل خطبهم من يومه فقال : أما بعد فإن أمير المؤمنين ولاني مصركم وثغركم وفيئكم ، وأمرني بإنصاف مظلومكم ، وإعطاء محرومكم ، وبالإحسان إلى سامعكم ومطيعكم ، وبالشدة على مريبكم وعاصيكم ، وأنا متبع فيكم أمره ، ومنفذ فيكم عهده ، فأنا لمحسنكم كالوالد البر ، ولمطيعكم كالأخ الشقيق ، وسيفي وسوطي على من ترك أمري وخالف عهدي ، فليبق امرؤ على نفسه .

ثم نزل فأخذ العرفاء والناس أخذا شديدا وقال : اكتبوا إلي الغرباء ومن فيكم

[ ص: 137 ] من طلبة أمير المؤمنين ومن فيكم من الحرورية وأهل الريب الذين رأيهم الخلاف والشقاق ، فمن كتبهم إلي فبريء ، ومن لم يكتب لنا أحدا فليضمن لنا ما في عرافته أن لا يخالفنا فيهم مخالف ولا يبغي علينا منهم باغ ، فمن لم يفعل فبرئت منه الذمة وحلال لنا دمه وماله ، وأيما عريف وجد في عرافته من بغية أمير المؤمنين أحد لم يرفعه إلينا صلب على باب داره وألقيت تلك العرافة من العطاء وسير إلى موضع بعمان الزارة . ثم نزل .

وسمع مسلم بمقالة عبيد الله فخرج من دار المختار وأتى دار هانئ بن عروة المرادي فدخل بابه واستدعى هانئا ، فخرج إليه ، فلما رآه كره مكانه فقال له مسلم : أتيتك لتجيرني وتضيفني .

فقال له هانئ : لقد كلفتني شططا ، ولولا دخولك داري لأحببت أن تنصرف عني ، غير أنه يأخذني من ذلك ذمام ، ادخل .

فآواه ، فاختلفت الشيعة إليه في دار هانئ .

ودعا ابن زياد مولى له ، وأعطاه ثلاثة آلاف درهم وقال له : اطلب مسلم بن عقيل وأصحابه والقهم وأعطهم هذا المال وأعلمهم أنك منهم واعلم أخبارهم .

ففعل ذلك وأتى مسلم بن عوسجة الأسدي بالمسجد فسمع الناس يقولون : هذا يبايع للحسين ، وهو يصلي ، فلما فرغ من صلاته قال له : يا عبد الله إني امرؤ من أهل الشام أنعم الله علي بحب أهل هذا البيت ، وهذه ثلاث آلاف درهم أردت بها لقاء رجل منهم بلغني أنه قدم الكوفة يبايع لابن بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد سمعت نفرا يقولون إنك تعلم أمر هذا البيت وإني أتيتك لتقبض المال وتدخلني على صاحبك أبايعه ، وإن شئت أخذت بيعتي له قبل لقائي إياه .

فقال : لقد سرني لقاؤك إياي لتنال الذي تحب وينصر الله بك أهل بيت نبيه ، وقد ساءني معرفة الناس هذا الأمر مني قبل أن يتم مخافة هذا الطاغية وسطوته .

فأخذ بيعته والمواثيق المعظمة ليناصحن وليكتمن ، واختلف إليه أياما ليدخله على مسلم بن عقيل .

[ ص: 138 ] ومرض هانئ بن عروة ، فأتاه عبيد الله يعوده ، فقال له عمارة بن عبد السلولي : إنما جماعتنا وكيدنا قتل هذا الطاغية وقد أمكنك الله فاقتله . فقال هانئ : ما أحب أن يقتل في داري . وجاء ابن زياد فجلس عنده ثم خرج ، فما مكث إلا جمعة حتى مرض شريك بن الأعور ، وكان قد نزل على هانئ وكان كريما على ابن زياد وعلى غيره من الأمراء ، وكان شديد التشيع ، قد شهد صفين مع عمار ، فأرسل إليه عبيد الله : إني رائح إليك العشية .

فقال لمسلم : إن هذا الفاجر عائدي العشية فإذا جلس اخرج إليه فاقتله ثم اقعد في القصر ليس أحد يحول بينك وبينه ، فإن برأت من وجعي سرت إلى البصرة حتى أكفيك أمرها . فلما كان من العشي أتاه عبيد الله ، فقام مسلم بن عقيل ليدخل ، فقال له شريك : لا يفوتنك إذا جلس .

فقال هانئ بن عروة : لا أحب أن يقتل في داري .

فجاء عبيد الله فجلس وسأل شريكا عن مرضه ، فأطال ، فلما رأى شريك أن مسلما لا يخرج خشي أن يفوته فأخذ يقول :


ما تنظرون بسلمى لا تحيوها اسقونيها وإن كانت بها نفسي



فقال ذلك مرتين أو ثلاثا ، فقال عبيد الله : ما شأنه ؟ أترونه يخلط ؟ فقال له هانئ : نعم ، ما زال هذا دأبه قبيل الصبح حتى ساعته هذه ، فانصرف .

وقيل : إن شريكا لما قال اسقونيها وخلط كلامه فطن به مهران فغمز عبيد الله فوثب ، فقال له شريك : أيها الأمير إني أريد أن أوصي إليك .

فقال : أعود إليك .

فقال له مهران : إنه أراد قتلك .

فقال : وكيف مع إكرامي له وفي بيت هانئ ويد أبي عنده ؟ فقال له مهران : هو ما قلت لك .

فلما قام ابن زياد خرج مسلم بن عقيل ، فقال له شريك : ما منعك من قتله ؟ قال : خصلتان ، أما إحداهما فكراهية هانئ أن يقتل في منزله ، وأما الأخرى فحديث حدثه علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إن الإيمان قيد الفتك ، فلا يفتك مؤمن بمؤمن .

فقال له هانئ : لو

[ ص: 139 ] قتلته لقتلت فاسقا فاجرا كافرا غادرا !

ولبث شريك بعد ذلك ثلاثا ثم مات ، فصلى عليه عبيد الله .

فلما علم عبيد الله أن شريكا كان حرض مسلما على قتله قال : والله لا أصلي على جنازة عراقي أبدا ، ولولا أن قبر زياد فيهم لنبشت شريكا .

ثم إن مولى ابن زياد الذي دسه بالمال اختلف إلى مسلم بن عوسجة بعد موت شريك ، فأدخله على مسلم بن عقيل فأخذ بيعته وقبض ماله وجعل يختلف إليهم ويعلم أسرارهم ، وينقلها إلى ابن زياد .

وكان هانئ قد انقطع عن عبيد الله بعذر المرض ، فدعا عبيد الله محمد بن الأشعث وأسماء بن خارجة ، وقيل : دعا معهما بعمرو بن الحجاج الزبيدي فسألهم عن هانئ وانقطاعه ، فقالوا : إنه مريض .

فقال : بلغني أنه يجلس على باب داره وقد برأ ، فالقوه فمروه أن لا يدع ما عليه في ذلك .

فأتوه فقالوا له : إن الأمير قد سأل عنك وقال : لو أعلم أنه شاك لعدته ، وقد بلغه أنك تجلس على باب دارك ، وقد استبطأك ، والجفاء لا يحتمله السلطان ، أقسمنا عليك لو ركبت معنا .

فلبس ثيابه وركب معهم .

فلما دنا من القصر أحست نفسه بالشر فقال لحسان بن أسماء بن خارجة : يا ابن أخي إني لهذا الرجل لخائف ، فما ترى ؟ فقال : ما أتخوف عليك شيئا فلا تجعل على نفسك سبيلا ، ولم يعلم أسماء مما كان شيئا .

وأما محمد بن الأشعث فإنه علم به ، قال : فدخل القوم على ابن زياد وهانئ معهم ، فلما رآه ابن زياد قال لشريح القاضي : أتتك بحائن رجلاه ، فلما دنا منه قال عبيد الله :

أريد حياته ويريد قتلي عذيرك من خليلك من مراد

وكان ابن زياد مكرما له ، فقال هانئ : وما ذاك ؟ فقال : يا هانئ ما هذه الأمور التي تربص في دارك لأمير المؤمنين والمسلمين ! جئت بمسلم فأدخلته دارك وجمعت له السلاح والرجال وظننت أن ذلك يخفى علي ! قال : ما فعلت .

قال : بلى .

وطال [ ص: 140 ] بينهما النزاع ، فدعا ابن زياد مولاه ذاك العين ، فجاء حتى وقف بين يديه ، فقال : أتعرف هذا ؟ قال : نعم ، وعلم هانئ أنه كان عينا عليهم ، فسقط في يده ساعة ثم راجعته نفسه ، قال : اسمع مني وصدقني ، فوالله لا أكذبك ، والله ما دعوته ولا علمت بشيء من أمره حتى رأيته جالسا على بابي يسألني النزول علي ، فاستحييت من رده ولزمني من ذلك ذمام فأدخلته داري وضفته ، وقد كان من أمره الذي بلغك ، فإن شئت أعطيتك الآن موثقا تطمئن به ورهينة تكون في يدك حتى أنطلق وأخرجه من داري وأعود إليك . فقال : لا والله .

لا تفارقني أبدا حتى تأتيني به قال : لا آتيك بضيفي تقتله أبدا .

فلما كثر الكلام قام مسلم بن عمرو الباهلي ، وليس بالكوفة شامي ولا بصري غيره ، فقال : خلني وإياه حتى أكلمه ، لما رأى من لجاجه ، وأخذ هانئا وخلا به ناحية من ابن زياد بحيث يراهما ، فقال له : يا هانئ أنشدك الله أن تقتل نفسك وتدخل البلاء على قومك ! إن هذا الرجل ابن عم القوم وليسوا بقاتليه ولا ضائريه ، فادفعه إليه فليس عليك بذلك مخزاة ولا منقصة إنما تدفعه إلى السلطان ! قال : بلى والله إن علي في ذلك خزيا وعارا ، لا أدفع ضيفي وأنا صحيح شديد الساعد كثير الأعوان ، والله لو كنت واحدا ليس لي ناصر لم أدفعه حتى أموت دونه .

فسمع ابن زياد ذلك فقال : أدنوه مني .

فأدنوه منه .

فقال : والله لتأتيني به أو لأضربن عنقك ! قال : إذن والله تكثر البارقة حول دارك ! وهو يرى أن عشيرته ستمنعه .

فقال : أبالبارقة تخوفني ؟

وقيل إن هانئا لما رأى ذلك الرجل الذي كان عينا لعبيد الله علم أنه قد أخبره الخبر فقال : أيها الأمير قد كان الذي بلغك ، ولن أضيع يدك عندي وأنت آمن وأهلك فسر حيث شئت .

فأطرق عبيد الله عند ذلك ومهران قائم على رأسه وفي يده معكزة ، فقال : واذلاه ! هذا الحائك يؤمنك في سلطانك ! فقال : خذه ، فأخذ مهران ضفيرتي هانئ وأخذ عبيد الله القضيب ولم يزل يضرب أنفه وجبينه وخده حتى كسر أنفه وسيل الدماء على ثيابه ونثر لحم خديه وجبينه على لحيته حتى كسر القضيب ، وضرب هانئ يده إلى قائم سيف شرطي وجبذه فمنع منه ، فقال له عبيد الله : أحروري [ ص: 141 ] أحللت بنفسك وحل لنا قتلك ثم أمر به فألقي في بيت وأغلق عليه .

فقام إليه أسماء بن خارجة فقال : أرسله يا غادر ! أمرتنا أن نجيئك بالرجل فلما أتيناك به هشمت وجهه وسيلت دماءه وزعمت أنك تقتله .

فأمر به عبيد الله فلهز وتعتع ثم ترك فجلس .

فأما ابن الأشعث فقال : رضينا بما رأى الأمير ، لنا كان أو علينا .

وبلغ عمرو بن الحجاج أن هانئا قد قتل فأقبل في مذحج حتى أحاطوا بالقصر ، ونادى : أنا عمرو بن الحجاج ، هذه فرسان مذحج ووجوهها ، لم نخلع طاعة ولم نفارق جماعة . فقال عبيد الله لشريح القاضي ، وكان حاضرا :

ادخل على صاحبهم فانظر إليه ثم اخرج إليهم فأعلمهم أنه حي . ففعل شريح ، فلما دخل عليه قال له هانئ : يا للمسلمين ! أهلكت عشيرتي ؟ أين أهل الدين ؟ أين أهل النصر ؟ أيخلونني وعدوهم وابن عدوهم ! وسمع الضجة فقال : يا شريح إني لأظنها أصوات مذحج وشيعتي من المسلمين ، إنه إن دخل علي عشرة نفر أنقذوني . فخرج شريح ومعه عين أرسله ابن زياد ، قال شريح : لولا مكان العين لأبلغتهم قول هانئ .

فلما خرج شريح إليهم قال : قد نظرت إلى صاحبكم وإنه حي لم يقتل .

فقال عمرو وأصحابه :

فأما إذ لم يقتل فالحمد لله ! ثم انصرفوا .

وأتى الخبر مسلم بن عقيل فنادى في أصحابه : يا منصور أمت ! وكان شعارهم ، وكان قد بايعه ثمانية عشر ألفا وحوله في الدور أربعة آلاف ، فاجتمع إليه ناس كثير ، فعقد مسلم لعبد الله بن عزيز الكندي على ربع كندة وقال : سر أمامي ، وعقد لمسلم بن عوسجة الأسدي على ربع مذحج وأسد ، وعقد لأبي ثمامة الصائدي على

[ ص: 142 ] ربع تميم وهمدان ، وعقد لعباس بن جعدة الجدلي على ربع المدينة ، وأقبل نحو القصر .

فلما بلغ ابن زياد إقباله تحرز في القصر .

وأغلق الباب ، وأحاط مسلم بالقصر وامتلأ المسجد والسوق من الناس وما زالوا يجتمعون حتى المساء ، وضاق بعبيد الله أمره وليس معه في القصر إلا ثلاثون رجلا من الشرط وعشرون رجلا من الأشراف وأهل بيته ومواليه ، وأقبل أشراف الناس يأتون ابن زياد من قبل الباب الذي يلي دار الروميين والناس يسبون ابن زياد وأباه .

فدعا ابن زياد كثير بن شهاب الحارثي وأمره أن يخرج فيمن أطاعه من مذحج فيسير ويخذل الناس عن ابن عقيل ويخوفهم ، وأمر محمد بن الأشعث أن يخرج فيمن أطاعه من كندة وحضرموت فيرفع راية أمان لمن جاءه من الناس ، وقال مثل ذلك للقعقاع بن شور الذهلي وشبث بن ربعي التميمي وحجار بن أبجر العجلي وشمر بن ذي الجوشن الضبابي وترك وجوه الناس عنده استئناسا بهم لقلة من معه .

وخرج أولئك النفر يخذلون الناس ، وأمر عبيد الله من عنده من الأشراف أن يشرفوا على الناس من القصر فيمنوا أهل الطاعة ويخوفوا أهل المعصية ، ففعلوا ، فلما سمع الناس مقالة أشرافهم أخذوا يتفرقون حتى إن المرأة تأتي ابنها وأخاها وتقول : انصرف ، الناس يكفونك ، ويفعل الرجل مثل ذلك ، فما زالوا يتفرقون حتى بقي ابن عقيل في المسجد في ثلاثين رجلا .

فلما رأى ذلك خرج متوجها نحو أبواب كندة ، فلما خرج إلى الباب لم يبق معه أحد ، فمضى في أزقة الكوفة لا يدري أين يذهب ، فانتهى إلى باب امرأة من كندة يقال لها طوعة أم ولد كانت للأشعث وأعتقها فتزوجها أسيد الحضرمي فولدت له بلالا ، وكان بلال قد خرج مع الناس وهي تنتظره ، فسلم عليها ابن عقيل وطلب الماء فسقته ، فجلس ، فقالت له : يا عبد الله ألم تشرب ؟ قال : بلى .

قالت : فاذهب إلى أهلك ، فسكت ، فقالت له ثلاثا فلم يبرح ، فقالت : سبحان الله ! إني لا أحل لك الجلوس على بابي .

فقال لها : ليس لي في هذا المصر منزل ولا عشيرة ، فهل لك إلى أجر ومعروف ولعلي أكافئك به بعد اليوم ؟ قالت : وما ذاك ؟ قال : أنا مسلم بن عقيل ، كذبني هؤلاء القوم وغروني . قالت : ادخل .

فأدخلته بيتا في دارها وعرضت عليه العشاء فلم يتعش .

وجاء ابنها فرآها تكثر الدخول في ذلك البيت ، فقال لها : إن لك لشأنا في ذلك البيت

[ ص: 143 ] وسألها فلم تخبره ، فألح عليها فأخبرته واستكتمته وأخذت عليه الأيمان بذلك ، فسكت .

وأما ابن زياد فلما لم يسمع الأصوات قال لأصحابه : انظروا هل ترون منهم أحدا ؟ فنظروا فلم يروا أحدا ، فنزل إلى المسجد قبيل العتمة وأجلس أصحابه حول المنبر وأمر فنودي : [ ألا ] برئت الذمة من رجل من الشرط والعرفاء والمناكب والمقاتلة صلى العتمة إلا في المسجد .

فامتلأ المسجد ، فصلى بالناس ثم قام فحمد الله ثم قال : أما بعد فإن ابن عقيل السفيه الجاهل قد أتى ما رأيتم من الخلاف والشقاق فبرئت الذمة من رجل وجدناه في داره ، ومن أتانا به فله ديته .

وأمرهم بالطاعة ولزومها ، وأمر الحصين بن تميم أن يمسك أبواب السكك ثم يفتش الدور ، وكان على الشرط ، وهو من بني تميم .

ودخل ابن زياد وعقد لعمرو بن حريث وجعله على الناس ، فلما أصبح جلس للناس .

ولما أصبح بلال ابن تلك العجوز التي آوت مسلم بن عقيل أتى عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فأخبره بمكان ابن عقيل ، فأتى عبد الرحمن أباه ، وهو عند ابن زياد ، فأسر إليه بذلك ، فأخبر به محمد ابن زياد ، فقال له ابن زياد : قم فأتني به الساعة ، وبعث معه عمرو بن عبيد الله بن عباس السلمي في سبعين من قيس حتى أتوا الدار التي فيها ابن عقيل . فلما سمع الأصوات عرف أنه قد أتي ، فخرج إليهم بسيفه حتى أخرجهم من الدار ، ثم عادوا إليه فحمل عليهم فأخرجهم مرارا ، وضرب بكير بن حمران الأحمري فم مسلم فقطع شفته العليا وسقطت ثنيتاه ، وضربه مسلم على رأسه وثنى بأخرى على حبل العاتق كادت تطلع على جوفه ، فلما رأوا ذلك أشرفوا على سطح البيت وجعلوا يرمونه بالحجارة ويلهبون النار في القصب ويلقونها عليه .

فلما رأى ذلك خرج عليهم بسيفه فقاتلهم في السكة ، فقال له محمد بن الأشعث : لك الأمان فلا تقتل نفسك ! فأقبل يقاتلهم وهو يقول :


أقسمت لا أقتل إلا حرا     وإن رأيت الموت شيئا نكرا
أو يخلط البارد سخنا مرا     رد شعاع الشمس فاستقرا
كل امرئ يوما يلاقي شرا     أخاف أن أكذب أو أغرا


[ ص: 144 ] فقال له محمد : إنك لا تكذب ولا تخدع ، القوم بنو عمك وليسوا بقاتليك ولا ضاربيك .

وكان قد أثخن بالحجارة وعجز عن القتال ، فأسند ظهره إلى حائط تلك الدار ، فآمنه ابن الأشعث والناس غير عمرو بن عبيد الله السلمي فإنه قال : لا ناقة لي في هذا ولا جمل ، وأتي ببغلة فحمل عليها وانتزعوا سيفه ، فكأنه أيس من نفسه ، فدمعت عيناه ثم قال : هذا أول الغدر .

قال محمد : أرجو أن لا يكون عليك بأس .

قال : وما هو إلا الرجاء ، أين أمانكم ؟ ثم بكى فقال له عمرو بن عبيد الله بن عباس السلمي : من يطلب مثل الذي تطلب إذا نزل به مثل الذي نزل بك لم يبك ؟ ! فقال : ما أبكي لنفسي ولكني أبكى لأهلي المنقلبين إليكم ، أبكي للحسين وآل الحسين .

ثم قال لمحمد بن الأشعث : إني أراك ستعجز عن أماني فهل تستطيع أن تبعث من عندك رجلا يخبر الحسين بحالي ويقول له عني ليرجع بأهل بيته ولا يغره أهل الكوفة فإنهم أصحاب أبيك الذين كان يتمنى فراقهم بالموت أو القتل ؟ فقال له ابن الأشعث : والله لأفعلن ! ثم كتب بما قال مسلم إلى الحسين ، فلقيه الرسول بزبالة فأخبره ، فقال :

كلما قدر نازل عند الله     نحتسب أنفسنا وفساد أمتنا

.

وكان سبب مسيره من مكة كتاب مسلم إليه يخبره أنه بايعه ثمانية عشر ألفا ويستحثه للقدوم .

وأما مسلم فإن محمدا قدم به القصر ، ودخل محمد على عبيد الله فأخبره وأمانه له ، فقال له عبيد الله : ما أنت والأمان ! ما أرسلناك لتؤمنه إنما أرسلناك لتأتينا به ! فسكت محمد ، ولما جلس مسلم على باب القصر رأى جرة فيها ماء بارد ، فقال : اسقوني من هذا الماء .

فقال له مسلم بن عمرو الباهلي : أتراها ما أبردها ! والله لا تذوق منها قطرة حتى تذوق الحميم في نار جهنم ! فقال له ابن عقيل : من أنت ؟ قال : أنا من عرف الحق إذ [ ص: 145 ] تركته ، ونصح الأمة والإمام إذ غششته ، وسمع وأطاع إذ عصيته ، أنا مسلم بن عمرو .

فقال له ابن عقيل : لأمك الثكل ما أجفاك وأفظك وأقسى قلبك وأغلظك ! أنت يا ابن باهلة أولى بالحميم والخلود في نار جهنم مني ! قال : فدعا عمارة بن عقبة بماء بارد فصب له في قدح فأخذ ليشرب فامتلأ القدح دما ، ففعل ذلك ثلاثا ، فقال : لو كان من الرزق المقسوم شربته .

وأدخل على ابن زياد فلم يسلم عليه بالإمارة ، فقال له الحرسي : ألا تسلم على الأمير ؟ فقال : إن كان يريد قتلي فما سلامي عليه ، وإن كان لا يريد قتلي فليكثرن تسليمي عليه .

فقال له ابن زياد : لعمري لتقتلن ! فقال : كذلك ؟ قال نعم . قال : فدعني أوصي إلى بعض قومي .

قال : افعل .

فقال لعمرو بن سعد : إن بيني وبينك قرابة ولي إليك حاجة وهي سر ، فلم يمكنه من ذكرها ، فقال له ابن زياد : لا تمتنع من حاجة ابن عمك .

فقام معه فقال : إن علي بالكوفة دينا استدنته منذ قدمت الكوفة سبعمائة درهم فاقضها عني وانظر جثتي فاستوهبها فوارها وابعث إلى الحسين من يرده .

فقال عمر لابن زياد : إنه قال كذا وكذا

فقال ابن زياد : لا يخونك الأمين ولكن قد يؤتمن الخائن ، أما مالك فهو لك تصنع به ما شئت ، وأما الحسين فإن لم يردنا لم نرده ، وإن أرادنا لم نكف عنه ، وأما جثته فإنا لن نشفعك فيها ، وقيل إنه قال : أما جثته فإنا إذا قتلناه لا نبالي ما صنع بها .

ثم قال لمسلم : يا ابن عقيل أتيت الناس وأمرهم جميع وكلمتهم واحدة لتشتت بينهم وتفرق كلمتهم ! فقال : كلا ولكن أهل هذا المصر زعموا أن أباك قتل خيارهم وسفك دماءهم وعمل فيهم أعمال كسرى وقيصر فأتيناهم لنأمر بالعدل وندعو إلى حكم الكتاب والسنة .

فقال : وما أنت وذاك يا فاسق ؟ ألم يكن يعمل بذلك فيهم إذ أنت تشرب الخمر بالمدينة ؟ قال : أنا أشرب الخمر ! والله إن الله يعلم أنك تعلم أنك غير صادق ، وأني لست كما ذكرت ، وإن أحق الناس بشرب الخمر مني من يلغ في دماء المسلمين ، فيقتل النفس التي حرم الله قتلها على الغضب والعداوة ، وهو يلهو ويلعب كأنه لم يصنع شيئا .

فقال له ابن زياد : قتلني الله إن لم أقتلك قتلة لم يقتلها أحد في الإسلام ! قال : أما إنك أحق من أحدث في الإسلام ما ليس فيه ، أما إنك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة وخبث السيرة ولؤم الغلبة ولا أحد من الناس أحق بها منك .

فشتمه ابن زياد وشتم

[ ص: 146 ] الحسين وعليا وعقيلا ، فلم يكلمه مسلم ، ثم أمر به فأصعد فوق القصر لتضرب رقبته ويتبعوا رأسه جسده ، فقال مسلم لابن الأشعث : والله لولا أمانك ما استسلمت ، قم بسيفك دوني ، قد أخفرت ذمتك .

فأصعد مسلم فوق القصر وهو يستغفر ويسبح ، وأشرف به على موضع الحدائين فضربت عنقه ، وكان الذي قتله بكير بن حمران الذي ضربه مسلم ، ثم أتبع رأسه جسده .

فلما نزل بكير قال له ابن زياد : ما كان يقول وأنتم تصعدون به ؟ قال : كان يسبح ويستغفر ، ( فلما أدنيته لأقتله ) قلت له : ادن مني ، الحمد لله الذي ( أمكن منك ) وأقادني منك ! فضربته ضربة لم تغن شيئا ، فقال : أما ترى في خدش تخدشنيه وفاء من دمك أيها العبد ؟ فقال ابن زياد : وفخرا عند الموت ! قال : ثم ضربته الثانية فقتلته .

وقام محمد بن الأشعث فكلم ابن زياد في هانئ وقال له : قد عرفت منزلته في المصر وبيته ، وقد علم قومه أني أنا وصاحبي سقناه إليك ، فأنشدك الله لما وهبته لي فإني أكره عداوة قومه :

فوعده أن يفعل .

فلما كان من مسلم ما كان ، بدا له فأمر بهانئ حين قتل مسلم فأخرج إلى السوق فضربت عنقه ، قتله مولى تركي لابن زياد ، قال : فبصر به عبد الرحمن بن الحصين المرادي بعد ذلك بخازر مع ابن زياد فقتله .

فقال عبد الله بن الزبير الأسدي في قتل هانئ ومسلم ، وقيل قاله الفرزدق ، ( الزبير بفتح الزاي وكسر الباء الموحدة ) :


فإن كنت لا تدرين ما الموت فانظري     إلى هانئ في السوق وابن عقيل
إلى بطل قد هشم السيف وجهه     وآخر يهوي من طمار قتيل


وهي أبيات . وبعث ابن زياد برأسيهما إلى يزيد ، فكتب إليه يزيد يشكره ويقول له : وقد بلغني أن الحسين قد توجه نحو العراق ، فضع المراصد والمسالح واحترس واحبس

[ ص: 147 ] على التهمة وخذ على الظنة ، غير أن لا تقتل إلا من قاتلك .

وقيل : وكان مخرج ابن عقيل بالكوفة لثماني ليال مضين من ذي الحجة سنة ستين ، وقيل : لتسع مضين منه ، قيل وكان فيمن خرج معه المختار بن أبي عبيد وعبد الله بن الحارث بن نوفل ، فطلبهما ابن زياد وحبسهما ، وكان فيمن قاتل مسلما محمد بن الأشعث وشبث بن ربعي التميمي والقعقاع بن شور ، وجعل شبث يقول : انتظروا بهم الليل يتفرقوا ، فقال له القعقاع : إنك قد سددت عليهم وجه مهربهم فافرج لهم يتفرقوا .

التالي السابق


الخدمات العلمية