الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر هرب ابن زياد إلى الشام

ثم إن الأزد وربيعة جددوا الحلف الذي كان بينهم وبين الجماعة ، وأنفق ابن زياد مالا كثيرا فيهم حتى تم الحلف وكتبوا بذلك بينهم كتابين ، فكان أحدهما عند مسعود بن عمرو . فلما سمع الأحنف أن الأزد طلبت إلى ربيعة ذلك ، قال : لا يزالون لهم أتباعا إذا أتوهم .

فلما تحالفوا اتفقوا على أن يردوا ابن زياد إلى دار الإمارة ، فساروا ، ورئيسهم مسعود بن عمرو ، وقالوا لابن زياد : سر معنا ، فلم يفعل وأرسل معه مواليه على الخيل وقال لهم : لا تتحدثوا بخير ولا بشر إلا أتيتموني به ، فجعل مسعود لا يأتي سكة ولا يتجاوز قبيلة إلا أتى بعض أولئك الغلمان ابن زياد بالخبر ، وسارت ربيعة ، وعليهم مالك بن مسمع ، فأخذوا سكة المربد ، وجاء مسعود فدخل المسجد فصعد المنبر وعبد الله بن الحارث في دار الإمارة ، فقيل له : إن مسعودا وأهل اليمن وربيعة قد ساروا وسيهيج بين الناس شر ، فلو أصلحت بينهم أو ركبت في بني تميم عليهم .

فقال : أبعدهم الله ، لا والله لا أفسدن نفسي في إصلاحهم ! وجعل رجل من أصحاب مسعود يقول :


لأنكحن ببه جارية في قبه تمشط رأس لعبه



هذا قول الأزد ، وأما قول مضر فيقولون : إن أمه كانت ترقصه وتقول هذا .

وصعد مسعود المنبر وسار مالك بن مسمع نحو دور بني تميم حتى دخل سكة بني العدوية فحرق دورهم لما في نفسه لاستعراض ابن خازم ربيعة بهراة . وجاء بنو [ ص: 232 ] تميم إلى الأحنف فقالوا : يا أبا بحر ، إن ربيعة والأزد قد تحالفوا وقد ساروا إلى الرحبة فدخلوها .

فقال : لستم بأحق بالمسجد منهم .

فقالوا : قد دخلوا الدار .

فقال : لستم بأحق بالدار منهم .

فأتته امرأة بمجمر وقالت له : ما لك وللرياسة ، إنما أنت امرأة تتجمر ! فقال : است المرأة أحق بالمجمر ، فما سمع منه كلمة أسوأ منها ، ثم أتوه فقالوا : إن امرأة منا قد سلبت خلخالها ، وقد قتلوا الصباغ الذي على طريقك وقتلوا المقعد الذي على باب المسجد ، وقد دخل مالك بن مسمع سكة بني العدوية فحرق .

فقال الأحنف : أقيموا البينة على هذا ، ففي دون هذا ما يحل قتالهم .

فشهدوا عنده على ذلك .

فقال الأحنف : أجاء عباد بن الحصين ؟ قالوا : لا ، وهو عباد بن الحصين بن يزيد بن عمرو بن أوس من بني عمرو بن تميم ، ثم قال : أجاء عباد ؟ قالوا : لا .

قال : أهاهنا عبس بن طلق بن ربيعة الصريمي من بني سعد بن زيد مناة بن تميم ؟ قالوا : نعم ، فدعاه فانتزع معجرا في رأسه فعقده في رمح ثم دفعه إليه وقال : سر ، فلما ولى قال : اللهم لا تخزها اليوم فإنك لم تخزها فيما مضى ، وصاح الناس : هاجت زبراء ! وهي أمة للأحنف كنوا بها عنه .

فسار عبس إلى المسجد ، فلما سار عبس جاء عباد فقال : ما صنع الناس ؟ فقيل : سار بهم عبس .

فقال : لا أسير تحت لواء عبس ، وعاد إلى بيته ومعه ستون فارسا .

فلما وصل عبس إلى المسجد قاتل الأزد على أبوابه ، ومسعود على المنبر يحضض الناس ، فقاتل غطفان بن أنيف التميمي وهو يقول :


يال تميم إنها مذكوره     إن فات مسعود بها مشهوره
فاستمسكوا بجانب المقصوره



[ ص: 233 ] أي لا يهرب [ فيفوت ] .

وأتوا مسعودا وهو على المنبر فاستنزلوه فقتلوه ، وذلك أول شوال سنة أربع وستين ، وانهزم أصحابه ، وهرب أشيم بن شقيق بن ثور فطعنه أحدهم فنجا بها ، فقال الفرزدق :


لو أن أشيم لم يسبق أسنتنا     وأخطأ الباب إذ نيراننا تقد
إذا لصاحب مسعودا وصاحبه     وقد تهافتت الأعفاج والكبد


ولما صعد مسعود المنبر أتى ابن زياد فقيل له ذلك ، فتهيأ ليجيء إلى دار الإمارة ، فأتوه وقالوا له : إنه قتل مسعود ، فركب ولحق بالشام .

فأما مالك بن مسمع فأتاه من مضر فحصروه في داره وحرقوا داره .

ولما هرب ابن زياد تبعوه فأعجزهم فنهبوا ما وجدوا له ، ففي ذلك يقول واقد بن خليفة التميمي :


يا رب جبار شديد كلبه     قد صار فينا تاجه وسلبه
منهم عبيد الله يوم نسلبه     جياده وبزه وننهبه
يوم التقى مقنبنا ومقنبه     لو لم ينج ابن زياد هربه



وقد قيل في قتل مسعود ومسير ابن زياد غير ما تقدم ، هو أنه لما استجار ابن زياد بمسعود بن عمرو أجاره ، ثم سار ابن زياد إلى الشام وأرسل معه مسعود مائة من الأزد حتى قدموا به إلى الشام ، فبينما هو يسير ذات ليلة قال : قد ثقل علي ركوب الإبل فوطئوا لي على ذي حافر ، فجعلوا له قطيفة على حمار ، فركبه ثم سار وسكت طويلا .

قال مسافر بن شريح اليشكري : فقلت في نفسي : لئن كان نائما لأنغصن عليه نومه ، فدنوت منه فقلت : أنائم أنت ؟ قال : لا ، كنت أحدث نفسي .

قلت : أفلا [ ص: 234 ] أحدثك بما كنت تحدث به نفسك ؟ قال : هات .

قلت : كنت تقول : ليتني لم أقتل حسينا .

قال : وماذا ؟ قلت : تقول : ليتني لم أكن قتلت من قتلت .

قال : وماذا ؟ قلت : تقول : ليتني لم أكن بنيت البيضاء .

قال : وماذا ؟ قلت : تقول : ليتني لم أكن استعملت الدهاقين .

قال : وماذا ؟ قلت : تقول : ليتني كنت أسخى مما كنت .

قال : أما قتلي الحسين فإنه أشار إلي يزيد بقتله أو قتلي فاخترت قتله ، وأما البيضاء فإني اشتريتها من عبد الله بن عثمان الثقفي وأرسل إلي يزيد بألف ألف فأنفقها عليها ، فإن بقيت فلأهلي ، وإن هلكت لم آس عليها ، وأما استعمال الدهاقين فإن عبد الرحمن بن أبي بكرة ( وزاذان فروخ وقعا في عند معاوية [ حتى ذكروا قشور الأرز ] فبلغا بخراج العراق مائة ألف ألف ، فخيرني معاوية بين العزل والضمان ، فكرهت العزل ، فكنت إذا استعملت العربي كسر الخراج ، فإن أغرمت عشيرته أو طالبته أوغرت صدورهم ، وإن تركته تركت مال الله وأنا أعرف مكانه ، فوجدت الدهاقين أبصر بالجباية وأوفى بالأمانة وأهون بالمطالبة منكم ، مع أني قد جعلتكم أمناء عليهم لئلا يظلموا أحدا ، وأما قولك في السخاء فما كان لي مال فأجود به عليكم ، ولو شئت لأخذت بعض مالكم فخصصت به بعضكم دون بعض فيقولون ما أسخاه .

وأما قولك ليتني لم أكن قتلت من قتلت فما عملت بعد كلمة الإخلاص عملا هو أقرب إلى الله عندي من قتل من قتلت من الخوارج ، ولكني سأخبرك بما حدثت به نفسي ، قلت : ليتني كنت قاتلت أهل البصرة فإنهم بايعوني طائعين ، ولقد حرصت على ذلك ، ولكن بني زياد قالوا : إن قاتلتهم فظهروا عليك لم يبقوا منا أحدا ، وإن تركتهم تغيب الرجل منا عند أخواله وأصهاره فوقعت بهم ، فكنت أقول : ليتني أخرجت أهل السجن فضربت أعناقهم ، وأما إذ فاتت هاتان فليتني أقدم الشام ولم يبرموا أمرا .

قال : فقدم الشام ولم يبرموا أمرا ، [ فكأنما ] كانوا معه صبيانا ، وقيل : بل قدم وقد أبرموا فنقض عليهم ما أبرموا .

فلما سار من البصرة استخلف مسعودا عليها ، فقال بنو تميم وقيس : لا نرضى به ، [ ص: 235 ] ولا نولي إلا رجلا ترضاه جماعتنا .

فقال مسعود : قد استخلفني ولا أدع ذلك أبدا .

وخرج حتى انتهى إلى القصر ودخله ، واجتمعت تميم إلى الأحنف فقالوا له :

إن الأزد قد دخلوا المسجد .

قال : إنما هو لهم ولكم .

قالوا : قد دخلوا القصر وصعد مسعود المنبر ، وكانت خوارج قد خرجوا فنزلوا نهر الأساورة حين خرج عبيد الله إلى الشام ، فزعم الناس أن الأحنف بعث إليهم أن هذا الرجل الذي قد دخل القصر هو لنا ولكم عدو فما يمنعكم عنه ! فجاءت عصابة منهم حتى دخلوا المسجد ومسعود على المنبر يبايع من أتاه ، فرماه علج يقال له مسلم من أهل فارس ، دخل البصرة فأسلم ( ثم دخل في الخوارج ، فأصاب قلبه ) فقتله ، فقال الناس : قتله الخوارج ، فخرجت الأزد إلى تلك الخوارج فقتلوا منهم وجرحوا فطردوهم عن البصرة .

ثم قيل للأزد : إن تميما قتلوا مسعودا ، فأرسلوا يسألون ، فإذا ناس من تميم تقوله ، فاجتمعت الأزد عند ذلك فرأسوا عليهم زياد بن عمرو أخا مسعود بن عمرو ومعهم مالك بن مسمع في ربيعة ، وجاءت تميم إلا الأحنف يقولون : قد خرج القوم ، وهو يتمكث لا يخف للفتنة ، فجاءته امرأة بمجمر فقالت : اجلس على هذا ، أي إنما أنت امرأة .

فخرج الأحنف في بني تميم ومعهم من بالبصرة من قيس فالتقوا ، فقتل بينهم قتلى كثيرة ، فقال لهم بنو تميم : الله الله يا معشر الأزد في دمائنا ودمائكم ، بيننا وبينكم القرآن ومن شئتم من أهل الإسلام ، فإن لكم علينا بينة ، فاختاروا أفضل رجل فينا فاقتلوه ، وإن لم تكن لكم بينة فإنا نحلف بالله ما قتلنا ولا أمرنا ولا نعلم له قاتلا ، وإن لم تريدوا ذلك فنحن ندي صاحبكم بمائة ألف درهم .

وأتاهم الأحنف واعتذر إليهم مما قيل ، وسفر بينهم عمر بن عبيد الله بن معمر وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، فطلبوا عشر ديات ، فأجابهم إلى ذلك واصطلحوا عليه .

وأما عبد الله بن الحارث ببة فإنه أقام يصلي بهم حتى قدم عليهم عمر بن عبيد الله بن معمر أميرا من قبل ابن الزبير .

وقيل : بل كتب ابن الزبير إلى عمر بعهده على البصرة ، فأتاه الكتاب وهو متوجه إلى العمرة ، فكتب عمر إلى أخيه عبيد الله يأمره أن يصلي بالناس ، فصلى بهم حتى قدم عمر ، فبقي عمر أميرا شهرا حتى قدم [ ص: 236 ] الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي بعزله ووليها الحارث ، وهو القباع .

وقيل : اعتزل عبد الله بن الحارث ببة أهل البصرة بعد قتل مسعود بسبب العصبية وانتشار الخوارج ، فكتب أهل البصرة إلى ابن الزبير ، فكتب ابن الزبير إلى أنس بن مالك يأمره أن يصلي بالناس ، فصلى بهم أربعين يوما وكان عبد الله بن الحارث يقول : ما أحب أن أصلح الناس بفساد نفسي ، وكان يتدين .

وفي أيامه سار نافع بن الأزرق إلى الأهواز من البصرة .

وأما أهل الكوفة فإنهم لما ردوا رسل ابن زياد ، على ما ذكرناه قبل ، عزلوا خليفته عليهم ، وهو عمرو بن حريث ، واجتمع الناس وقالوا : نؤمر علينا رجلا إلى أن يجتمع الناس على خليفة ، فاجتمعوا على عمر بن سعد ، فجاءت نساء همدان يبكين الحسين ، ورجالهم متقلدو السيوف ، فأطافوا بالمنبر ، فقال محمد بن الأشعث : جاء أمر غير ما كنا فيه .

وكانت كندة تقوم بأمر عمر بن سعد لأنهم أخواله ، فاجتمعوا على عامر بن مسعود بن أمية بن خلف بن وهب بن حذافة الجمحي ، فخطب أهل الكوفة فقال : إن لكل قوم أشربة ولذات فاطلبوها في مظانها ، وعليكم بما يحل ويحمد ، واكسروا شرابكم بالماء ، وتواروا عني بهذه الجدران ، فقال ابن همام :

اشرب شرابك وانعم غير محسود واكسره بالماء لا تعص ابن مسعود إن الأمير له في الخمر مأربة فاشرب هنيئا مريئا غير مرصود من ذا يحرم ماء المزن خالطه في قعر خابية ماء العناقيد إني لأكره تشديد الرواة لنا فيها ويعجبني قول ابن مسعود ولما بايعه أهل الكوفة وكتبوا بذلك إلى ابن الزبير أقره عليها ، وكان يلقب [ ص: 237 ] دحروجة الجعل ، وكان قصيرا ، فمكث ثلاثة أشهر من مهلك يزيد بن معاوية ، ثم قدم عليهم عبد الله بن يزيد الخطمي الأنصاري على الصلاة ، وإبراهيم بن محمد بن طلحة على الخراج من عند ابن الزبير ، واستعمل محمد بن الأشعب بن قيس على الموصل ، فاجتمع لابن الزبير أهل الكوفة والبصرة ، ومن بالقبلة من العرب وأهل الجزيرة وأهل الشام إلا أهل الأردن في إمارة عمر بن عبيد الله بن معمر .

وكان طاعون الجارف بالبصرة ، فماتت أمه فما وجد لها من يحملها حتى استأجروا لها أربعة أعلاج فحملوها .

التالي السابق


الخدمات العلمية