الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 254 ] ذكر فراق الخوارج عبد الله بن الزبير وما كان منهم

وفي هذه السنة فارق الخوارج الذين كانوا قدموا مكة عبد الله بن الزبير ، وكانوا قد قاتلوا معه أهل الشام .

وكان سبب قدومهم عليه أنهم لما اشتد عليهم ابن زياد بعد قتل أبي بلال اجتمعوا فتذاكروا ذلك ، فقال لهم نافع بن الأزرق : إن الله قد أنزل عليكم الكتاب ، وفرض عليكم الجهاد ، واحتج عليكم بالبيان ، وقد جرد أهل الظلم فيكم السيوف فاخرجوا بنا إلى هذا الذي قد ثار بمكة فإن كان على رأينا جاهدنا معه ، وإن يكن على غير رأينا دافعناه عن البيت . وكان عسكر الشام قد سار نحو ابن الزبير . فسار الخوارج حتى قدموا على ابن الزبير ، فسر بمقدمهم وأخبرهم أنه على مثل رأيهم من غير تفتيش .

فقاتلوا معه أهل الشام حتى مات يزيد بن معاوية وانصرف أهل الشام .

ثم إنهم اجتمعوا وقالوا : إن الذي صنعتم أمس لغير رأي ، تقاتلون مع رجل لا تدرون لعله ليس على مثل رأيكم ، وقد كان أمس يقاتلكم هو وأبوه وينادي : يا ثارات عثمان ! فأتوه واسألوه عن عثمان فإن برئ منه كان وليكم ، وإن أبى كان عدوكم .

فأتوه فسألوه ، فنظر فإذا أصحابه حوله قليل ، فقال : إنكم أتيتموني حين أردت القيام ، ولكن روحوا إلي العشية حتى أعلمكم .

فانصرفوا ، وبعث إلى أصحابه فجمعهم حوله بالسلاح ، وجاءت الخوارج وأصحابه حوله وعلى رأسه وبأيديهم العمد ، فقال ابن الأزرق لأصحابه : إن الرجل قد أزمع خلافكم ، فتقدم إليه نافع بن الأزرق وعبيدة بن هلال فقال عبيدة بعد حمد الله :

أما بعد فإن الله بعث محمدا يدعو إلى عبادته وإخلاص الدين له ، فدعا إلى ذلك فأجابه المسلمون ، فعمل فيهم بكتاب الله حتى قبضه الله واستخلف الناس أبا بكر واستخلف أبو بكر عمر ، فكلاهما عمل بكتاب الله وسنة نبيه ، ثم إن الناس استخلفوا عثمان ، فحمى الأحماء ، وآثر القربى ، واستعمل الفتى ورفع الدرة ووضع السوط ومزق الكتاب وضرب منكر الجور ، وآوى طريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضرب السابقين بالفضل وحرمهم ، وأخذ فيء الله الذي أفاء عليهم فقسمه في فساق [ ص: 255 ] قريش ومجان العرب ، فسارت إليه طائفة فقتلوه ، فنحن لهم أولياء ومن ابن عفان وأوليائه برآء ، فما تقول أنت يا ابن الزبير ؟ فقال : قد فهمت الذي ذكرت به النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو فوق ما ذكرت وفوق ما وصفت ، وفهمت ما ذكرت به أبا بكر وعمر ، وقد وفقت وأصبت ، وفهمت الذي ذكرت به عثمان ، وإني لا أعلم مكان أحد من خلق الله اليوم أعلم بابن عفان وأمره مني ، كنت معه حيث نقم [ القوم ] عليه واستعتبوه فلم يدع شيئا إلا أعتبهم ، ثم رجعوا إليه بكتاب له يزعمون أنه كتبه يأمر فيه بقتلهم ، فقال لهم : ما كتبته فإن شئتم فهاتوا بينتكم فإن لم تكن حلفت لكم ، فوالله ما جاءوه ببينة ولا استحلفوه ووثبوا عليه فقتلوه ، وقد سمعت ما عتبته به ، فليس كذلك بل هو لكل خير أهل ، وأنا أشهدكم ومن حضرني أني ولي لابن عفان وعدو أعدائه فبرئ الله منكم .

وتفرق القوم فأقبل نافع بن الأزرق الحنظلي وعبد الله بن الصفار السعدي وعبد الله بن إباض وحنظلة بن بيهس وبنو الماحوز : عبد الله وعبيد الله والزبير من بني سليط بن يربوع ، وكلهم من تميم ، حتى أتوا البصرة ، وانطلق أبو طالوت ، من بني بكر بن وائل ، وأبو فديك عبد الله بن ثور بن قيس بن ثعلبة ، وعطية بن الأسود اليشكري إلى اليمامة ، فوثبوا بها مع أبي طالوت ، ثم أجمعوا بعد ذلك على نجدة بن عامر الحنفي وتركوا أبا طالوت .

فأما نافع وأصحابه فإنهم قدموا البصرة وهم على رأي أبي بلال ، واجتمعوا وتذاكروا فضيلة الجهاد ، فخرج نافع على ثلاثمائة ، وذلك عند وثوب الناس بابن زياد وكسر الخوارج باب السجن ، وخرجوا واشتغل الناس عنهم بحرب الأزد وربيعة وتميم ، فلما خرج نافع تبعوه ، واصطلح أهل البصرة على عبد الله بن الحارث ، فتجرد الناس للخوارج وأخافوهم ، فلحق نافع بالأهواز في شوال سنة أربع وستين ، وخرج من بقي منهم بالبصرة إلى ابن الأزرق إلا من لم يرد الخروج يومه ذلك ، منهم : عبد الله بن الصفار ، وعبد الله بن إباض ، ورجال معهما على رأيهما ، ونظر نافع فرأى أن ولاية من تخلف عن الجهاد من الذين قعدوا من الخوارج لا تحل له ، وأن من تخلف عنه لا نجاة له ، فقال لأصحابه ذلك ودعاهم إلى البراءة منهم وأنهم لا يحل لهم مناكحتهم ولا أكل ذبائحهم ، [ ص: 256 ] ولا يجوز قبول شهادتهم وأخذ علم الدين عنهم ، ولا يحل ميراثهم ، ورأى قتل الأطفال والاستعراض ، وأن جميع المسلمين كفار مثل كفار العرب ، لا يقبل منهم إلا الإسلام أو القتل .

فأجابه إلى ذلك بعضهم وفارقه بعضهم ، وممن فارقه نجدة بن عامر ، وسار إلى اليمامة ، فأطاعه الخوارج الذين بها وتركوا أبا طالوت ، فكتب نافع إلى ابن إباض وابن الصفار يدعوهما ومن معهما إلى ذلك ، فقرأ ابن الصفار الكتاب ولم يقرأه على أصحابه خشية أن يتفرقوا ويختلفوا ، فأخذه ابن إباض فقرأه ، فقال : قاتله الله أي رأي رأى ! صدق نافع ، لو كان القوم مشركين كان أصوب الناس رأيا وكانت سيرته كسيرة النبي - صلى الله عليه وسلم - في المشركين ، ولكنه قد كذب فيما يقول ، إن القوم برآء من الشرك ولكنهم كفار بالنعم والأحكام ولا يحل لنا إلا دماؤهم ، وما سوى ذلك فهو حرام علينا .

فقال له ابن الصفار : برئ الله منك فقد قصرت ، وبرئ الله من ابن الأزرق فقد غلا .

فقال الآخر : برئ الله منك ومنه .

فتفرق القوم واشتدت شوكة ابن الأزرق وكثرت جموعه وأقام بالأهواز يجبي الخراج ويتقوى به ، ثم أقبل نحو البصرة حتى دنا من الجسر ، فبعث إليه عبد الله بن الحارث مسلم بن عبيس بن كريز بن ربيعة من أهل البصرة .

( عبيس بالعين المهملة المضمومة ، والباء الموحدة ، والياء المعجمة المثناة من تحت ، وبالسين المهملة . وعبيدة بن بلال بضم العين المهملة ، والباء الموحدة ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية