الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر نجدة بن عامر الحنفي

هو نجدة بن عامر بن عبد الله بن ساد بن المفرج الحنفي ، وكان مع نافع بن الأزرق ، ففارقه لإحداثه في مذهبه ما تقدم ذكره ، وسار إلى اليمامة ، ودعا أبا طالوت إلى نفسه ، فمضى إلى الحضارم فنهبها ، وكانت لبني حنيفة ، فأخذها منهم معاوية بن أبي سفيان فيها من الرقيق ما عدتهم وعدة أبنائهم ونسائهم أربعة آلاف ، فغنم ذلك وقسمه بين أصحابه ، وذلك سنة خمس وستين فكثر جمعه .

ثم إن عيرا خرجت من البحرين ، وقيل من البصرة ، تحمل مالا وغيره يراد بها ابن [ ص: 282 ] الزبير ، فاعترضها نجدة فأخذها وساقها حتى أتى بها أبا طالوت بالخضارم فقسمها بين أصحابه ، وقال : اقتسموا هذا المال وردوا هؤلاء العبيد واجعلوهم يعملون الأرض لكم فإن ذلك أنفع . فاقتسموا المال وقالوا : نجدة خير لنا من أبي طالوت ، فخلعوا أبا طالوت وبايعوا نجدة وبايعه أبو طالوت وذلك في سنة ست وستين ، ونجدة يومئذ ابن ثلاثين سنة .

ثم سار في جمع إلى بني كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة ، فلقيهم بذي المجاز فهزمهم وقتلهم قتلا ذريعا ، وصبر كلاب وعطيف ابنا قرة بن هبيرة القشيريان وقاتلا حتى قتلا ، وانهزم قيس بن الرقاد الجعدي فلحقه أخوه لأبيه معاوية فسأله أن يحمله ردفا فلم يفعل .

ورجع نجدة إلى اليمامة فكثر أصحابه فصاروا ثلاثة آلاف ، ثم سار نجدة إلى البحرين سنة سبع وستين ، فقالت الأزد : نجدة أحب إلينا من ولاتنا لأنه ينكر الجور وولاتنا يجوزونه ، فعزموا على مسالمته ، واجتمعت عبد القيس ومن بالبحرين غير الأزد على محاربته ، فقال بعض الأزد : نجدة أقرب إليكم منه إلينا لأنكم كلكم من ربيعة فلا تحاربوه ! وقال بعضهم : لا ندع نجدة وهو حروري مارق تجري علينا أحكامه . فالتقوا بالقطيف فانهزمت عبد القيس وقتل منهم جمع كثير وسبى نجدة من قدر عليه من أهل القطيف ، ( فقال الشاعر :


نصحت لعبد القيس يوم قطيفها وما نفع نصح ، قيل ، لا يتقبل



وأقام نجدة بالقطيف ووجه ابنه المطرح في جمع إلى المنهزمين من عبد القيس ، فقاتلوه بالثوير ، فقتل المطرح بن نجدة وجماعة من أصحابه .

وأرسل نجدة سرية إلى الخط فظفر بأهله ، وأقام نجدة بالبحرين . فلما قدم مصعب بن الزبير إلى البصرة سنة تسع وستين بعث إليه عبد الله بن عمير الليثي الأعور في أربعة عشر ألفا ( فجعل يقول : اثبت نجدة فإنا لا نفر ) ، فقدم ونجدة بالقطيف ، فأتى نجدة إلى ابن عمير ، وهو غافل ، فقاتل طويلا وافترقوا ، وأصبح ابن عمير فهاله ما رأى في عسكره من القتلى والجرحى ، وحمل عليهم نجدة فلم يلبثوا أن انهزموا ، فلم يبق عليهم نجدة وغنم ما في عسكرهم وأصاب جواري فيهن أم ولد لابن عمير ، فعرض عليها أن يرسلها إلى مولاها فقالت : لا حاجة بي إلى من فرعني وتركني .

[ ص: 283 ] وبعث نجدة أيضا بعد هزيمة ابن عمير جيشا إلى عمان واستعمل عليهم عطية بن الأسود الحنفي ، وقد غلب عليها عباد بن عبد الله ، وهو شيخ كبير ، وابناه سعيد وسليمان يعشران السفن ويجبيان البلاد ، فلما أتاهم عطية قاتلوه فقتل عباد واستولى عطية على البلاد فأقام بها أشهرا ثم خرج منها واستخلف رجلا يكنى أبا القاسم ، فقتله سعيد وسليمان ابنا عباد وأهل عمان .

ثم خالف عطية نجدة ، على ما نذكره إن شاء الله ، فعاد إلى عمان فلم يقدر عليها فركب في البحر وأتى كرمان وضرب بها دراهم سماها العطوية وأقام بكرمان . فأرسل إليه المهلب جيشا ، فهرب إلى سجستان ثم إلى السند ، فلقيه خيل المهلب بقندابيل فقتله ، وقيل : قتله الخوارج .

ثم بعث نجدة إلى البوادي بعد هزيمة ابن عمير أيضا من يأخذ من أهلها الصدقة ، فقاتل أصحابه بني تميم بكاظمة ، وأعان أهل طويلع بني تميم ، فقتلوا من الخوارج رجلا ، فأرسل نجدة إلى أهل طويلع من أغار عليهم وقتل منهم نيفا وثلاثين رجلا وسبى . ثم إنه دعاهم بعد ذلك فأجابوه ، فأخذ منهم الصدقة ، ثم سار نجدة إلى صنعاء في خف من الجيش ، فبايعه أهلها وظنوا أن وراءه جيشا كثيرا ، فلما لم يروا مددا يأتيه ندموا على بيعته ، وبلغه ذلك فقال : إن شئتم أقلتكم بيعتكم وجعلتكم في حل منها وقاتلتكم . فقالوا : لا نستقيل بيعتنا . فبعث إلى مخالفيها منهم الصدقة ، وبعث نجدة أبا فديك إلى حضرموت فجبى صدقات أهلها .

وحج نجدة سنة ثمان وستين ، وقيل سنة تسع وستين ، وهو في ثمانمائة وستين رجلا ، وقيل في ألفي رجل وستمائة رجل ، وصالح ابن الزبير على أن يصلي كل واحد بأصحابه ويقف بهم ويكف بعضهم عن بعض .

فلما صدر نجدة عن الحج سار إلى المدينة ، فتأهب أهلها لقتاله ، وتقلد عبد الله بن عمر سيفا ، فلما كان نجدة بنخل أخبر بلبس ابن عمر السلاح ، فرجع إلى الطائف وأصاب بنتا لعبد الله بن عمرو بن عثمان كانت عند ظئر لها فضمها إليه ، فقال بعض أصحابه : إن نجدة ليتعصب لهذه الجارية فامتحنوه ، فسأله بعضهم بيعها منه ، فقال : قد أعتقت نصيبي منها فهي حرة . قال : فزوجني إياها . قال : هي بالغ وهي [ ص: 284 ] أملك بنفسها فأنا أستأمرها ، فقام من مجلسه ثم دعا ، قال : قد استأمرتها وكرهت الزواج .

فقيل : إن عبد الملك أو عبد الله بن الزبير كتب إليه : والله لئن أحدثت فيها حدثا لأطأن بلادك وطأة لا يبقى معها بكري .

وكتب نجدة إلى ابن عمر يسأله عن أشياء ، فقال : سلوا ابن عباس ، فسألوه ، ومساءلة ابن عباس مشهورة .

ولما سار نجدة من الطائف أتاه عاصم بن عروة بن مسعود الثقفي فبايعه عن قومه ، ولم يدخل نجدة الطائف ، فلما قدم الحجاج الطائف لمحاربة ابن الزبير قال لعاصم : يا ذا الوجهين بايعت نجدة ! قال : إي والله وذو عشرة أوجه ، أعطيت نجدة الرضى ودفعته عن قومي وبلدي .

واستعمل الحاروق ، وهو حراق ، على الطائف وتبالة والسراة ، واستعمل سعد الطلائع على ما يلي نجران ، ورجع نجدة إلى البحرين فقطع الميرة عن أهل الحرمين منها ومن اليمامة ، فكتب إليه ابن عباس : إن ثمامة بن أثال لما أسلم قطع الميرة عن أهل مكة وهم مشركون ، فكتب إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن أهل مكة أهل الله فلا تمنعهم الميرة ، فجعلها لهم ، وإنك قطعت الميرة عنا ونحن مسلمون . فجعلها نجدة لهم .

ولم يزل عمال نجدة على النواحي حتى اختلف عليه أصحابه فطمع فيهم الناس ، فأما الحاروق فطلبوه بالطائف فهرب ، فلما كان في العقبة في طريقه لحقه قوم يطلبونه فرموه بالحجارة حتى قتلوه .

التالي السابق


الخدمات العلمية