الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر مقتل موسى بن عبد الله بن خازم

في هذه السنة قتل موسى بن عبد الله بن خازم بترمذ .

وكان سبب مصيره إلى ترمذ أن أباه لما قتل من قتل من بني تميم ، وقد تقدم ذكر ذلك ، تفرق عنه أكثر من كان معه منهم ، فخرج إلى نيسابور ، وخاف بني تميم على ثقله بمرو ، فقال لابنه موسى : خذ ثقلي ، واقطع نهر بلخ حتى تلتجئ إلى بعض الملوك ، وإلى حصن تقيم فيه . فرحل موسى عن مرو في عشرين ومائتي فارس ، واجتمع إليه تتمة أربعمائة ، وانضم إليه قوم من بني سليم ، فأتى زم ، فقاتله أهلها ، فظفر بهم فأصاب مالا ، وقطع النهر وأتى بخارى ، فسأل صاحبها أن يلجأ إليه فأبى . فخافه وقال : رجل فاتك وأصحابه مثله فلا آمنه . ووصله وسار ، فلم يأت ملكا يلجأ إليه إلا كره مقامه عنده ، فأتى سمرقند فأقام بها ، وأكرمه ملكها طرخون ، وأذن له في المقام ، وأقام ما شاء الله .

[ ص: 523 ] ولأهل الصغد مائدة يوضع عليها لحم وخل وخبز وإبريق شراب ، وذلك كل عام يوما ، يجعلون ذلك لفارس الصغد ، فلا يقربه غيره ، فإن أكل منه أحد بارزه ، فأيهما قتل صاحبه فالمائدة له . فقال رجل من أصحاب موسى : ما هذه المائدة ؟ فأخبر ، فجلس فأكل ما عليها ، وقيل لصاحب المائدة فجاء مغضبا وقال : يا عربي بارزني ! فبارزه فقتله صاحب موسى ، فقال ملك الصغد : أنزلتكم وأكرمتكم فقتلتم فارسي ، لولا أني آمنتك وأصحابك لقتلتكم ، اخرجوا عن بلدي . فخرجوا .

فأتى كش ، فضعف صاحبها عنه ، فاستنصر طرخون فأتاه ، فخرج موسى إليه وقد اجتمع معه سبعمائة فارس ، فقاتلهم حتى أمسوا وتحاجزوا ، وبأصحاب موسى جراح كثيرة ، فقال لزرعة بن علقمة : احتل لنا على طرخون . فأتاه فقال : أيها الملك ، ما حاجتك إلى أن تقتل موسى وتقتل معه ، فإنك لا تصل إليه حتى يقتلوا [ مثل ] عدتهم منكم ، ولو قتلته وإياهم جميعا ( ما نلت حظا ) ، لأن له قدرا في العرب ، فلا يأتي أحد خراسان إلا طالبك بدمه . فقال : ليس لي إلى ترك كش في يده سبيل . قال : فكف عنه حتى يرتحل . فكف .

وسار موسى فأتى ترمذ وبها حصن يشرف على جانب النهر ، فنزل موسى خارج الحصن ، وسأل ترمذشاه أن يدخله حصنه فأبى ، فأهدى له موسى ولاطفه حتى حصل بينهما مودة ، وخرج فتصيد معه . فصنع صاحب ترمذ طعاما ، وأحضر موسى ليأكل معه ، ولا يحضر إلا في مائة من أصحابه ، فاختار موسى مائة من أصحابه ، فدخلوا الحصن وأكلوا ، فلما فرغوا قال له : اخرج . قال : لا أخرج حتى يكون الحصن بيتي أو قبري . وقاتلهم فقتل منهم عدة ، وهرب الباقون ، واستولى موسى عليها ، وأخرج ترمذشاه منها ولم يعرض له ولا لأصحابه ، فأتوا الترك يستنصرونهم على موسى فلم ينصروهم وقالوا : لا نقاتل هؤلاء . وأقام موسى بترمذ ، فأتاه جمع من أصحاب أبيه فقوي بهم ، فكان يخرج فيغير على ما حوله .

ثم ولي بكير بن وساج خراسان فلم يعرض له ، ثم قدم أمية فسار بنفسه يريد مخالفة بكير فرجع ، على ما تقدم ذكره . ثم إن أمية وجه إلى موسى بعد صلح بكير رجلا من خزاعة في جمع كثير ، وعاد أهل ترمذ إلى الترك ، فاستنصروهم وأعلموهم أنه قد غزاه قوم من العرب وحصروه . فسارت الترك في جمع كثير إلى الخزاعي ، فأطاف بموسى الترك والخزاعي ، فكان يقاتل الخزاعي أول النهار ، والترك آخر النهار ، فقاتلهم [ ص: 524 ] شهرين أو ثلاثة . ثم إنه أراد أن يبيت الخزاعي وعسكره ، فقال له عمرو بن خالد بن حصين الكلابي : ليكن البيات بالعجم ، فإن العرب أشد حذرا وأجرأ على الليل ، فإذا فرغنا من العجم تفرغنا للعرب .

فأقام حتى ذهب ثلث الليل ، وخرج موسى في أربعمائة وقال لعمرو بن خالد : اخرج بعدنا ، فكن أنت ومن معك قريبا ، فإذا سمعتم تكبيرنا فكبروا . ثم سار حتى ارتفع فوق عسكر الترك ، ورجع إليهم ، وجعل أصحابه أرباعا ، وأقبل إليهم ، فلما رآهم أصحاب الأرصاد قالوا : من أنتم ؟ قالوا : عابرو سبيل . فلما جاوزوا الرصد حملوا على الترك وكبروا ، فلم يشعر الترك إلا بوقع السيوف فيهم ، فساروا يقتل بعضهم بعضا وولوا ، فأصيب من المسلمين ستة عشر رجلا ، وحووا عسكرهم وأصابوا سلاحا كثيرا ومالا ، وأصبح الخزاعي وأصحابه وقد كسرهم ذلك ، فخافوا مثلها ، فقال عمرو بن خالد لموسى : إننا لا نظفر إلا بمكيدة ، ولهم أمدادا ، وهم كثيرون ، فدعني آته لعلي أصيب فرصة ، فاضربني وخلاك ذم . فقال له موسى : تتعجل الضرب وتتعرض للقتل . قال : أما التعرض للقتل فأنا كل يوم متعرض له ، وأما الضرب فما أيسره في جنب ما أريد . فضربه موسى خمسين سوطا ، فخرج من عسكر موسى وأتى عسكر الخزاعي مستأمنا ، وقال : أنا رجل من أهل اليمن كنت مع عبد الله بن خازم ، فلما قتل أتيت ابنه فكنت معه ، وإنه اتهمني وقال : قد تعصبت لعدونا وأنت عين له ، فضربني ولم آمن القتل فهربت منه . فآمنه الخزاعي وأقام معه ، فدخل يوما وهو خال ولم ير عنده سلاحا ، فقال كأنه ينصح له : أصلح الله الأمير ، إن مثلك في مثل هذه الحال لا ينبغي أن يكون بغير سلاح . قال : إن معي سلاحا . فرفع طرف فراشه فإذا سيف منتضى ، فأخذه عمرو فضربه حتى قتله ، وخرج فركب فرسه وأتى موسى ، وتفرق ذلك الجيش ، وأتى بعضهم موسى مستأمنا فآمنه ، ولم يوجه إليه أمية أحدا .

وعزل أمية وقدم المهلب أميرا ، فلم يتعرض لموسى وقال لبنيه : إياكم وموسى ، فإنكم لا تزالون ولاة خراسان ما دام هذا الثبط بمكانه ، فإن قتل فأول طالع عليكم أمير على خراسان من قيس . فلما مات المهلب وولي يزيد لم يتعرض أيضا لموسى .

وكان المهلب قد ضرب حريث بن قطبة الخزاعي ، فخرج هو وأخوه ثابت إلى موسى ، فلما ولي يزيد بن المهلب أخذ أموالهما وحرمهما ، وقتل أخاهما لأمهما الحارث بن منقذ ، فخرج ثابت إلى طرخون ، فشكا إليه ما صنع به ، وكان ثابت محبوبا إلى الترك بعيد الصوت فيهم ، فغضب له طرخون ، وجمع له نيزك والسبل وأهل بخارى والصغانيان ، فقدموا مع ثابت إلى موسى ، وقد اجتمع إلى موسى فل عبد الرحمن بن [ ص: 525 ] العباس من هراة ، وفل ابن الأشعث من العراق ، ومن ناحية كابل ، فاجتمع معه ثمانية آلاف ، فقال له ثابت وحريث : سر حتى تقطع النهر ، وتخرج يزيد عن خراسان ونوليك . فهم أن يفعل ، فقال له أصحابه : إن أخرجت يزيد عن خراسان تولى ثابت وأخوه خراسان وغلباك عليها . فلم يسر وقال لثابت وحريث : إن أخرجنا يزيد قدم عامل لعبد الملك ، ولكنا نخرج عمال يزيد عما وراء النهر ويكون لنا ، فأخرجوا عمال يزيد عما وراء النهر وجبوا الأموال ، فقوي أمرهم ، وانصرف طرخون ومن معه ، واستبد ثابت وحريث بتدبير الأمر ، والأمير موسى ليس له غير الاسم .

فقيل لموسى : ليس لك من الأمور شيء ، والأمور إلى ثابت وحريث فاقتلهما وتول الأمر . فأبى ، فألحوا عليه حتى أفسدوا قلبه عليهما ، وهم بقتلهما .

فإنهم لفي ذلك إذ خرج عليهم الهياطلة والتبت والترك في سبعين ألفا لا يعدون الحاسر ، ولا صاحب البيضة الجماء ، ولا يعدون إلا صاحب بيضة ذات قونس . فخرج ابن خازم وقاتلهم فيمن معه ، ووقف ملك الترك على تل في عشرة آلاف في أكمل عدة ، والقتال أشد ما كان ، فقالموسى : إن أزلتم هؤلاء فليس الباقون بشيء . فقصد لهم حريث بن قطبة فقاتلهم وألح عليهم حتى أزالهم عن التل ، ورمي حريث بنشابة في جبهته ، فتحاجزوا ، فبيتهم موسى ، وحمل أخوه خازم بن عبد الله بن خازم حتى وصل إلى شمعة ملكهم ، فوجأ رجلا منهم بقبيعة سيفه ، فطعن فرسه ، فاحتمله الفرس فألقاه في نهر بلخ فغرق ، وقتل من الترك خلق كثير ، ونجا من نجا منهم بشر ، ومات حريث بعد يومين .

ورجع موسى ، وحمل معه الرؤوس فبنى منها جوسقين . وقال أصحاب موسى : قد كفينا أمر حريث ، فاكفنا أمر ثابت . فأبى ، وبلغ ثابتا بعض ما يخوضون فيه ، فدس محمد بن عبد الله الخزاعي - عم نصر بن عبد الحميد ، عامل أبي مسلم على الري - على موسى ، وقال : إياك أن تتكلم بالعربية ، وإن سألوك فقل : أنا من سبي الباميان . ففعل ذلك واتصل بموسى ، وكان يخدمه وينقل إلى ثابت خبرهم ، فحذر ثابت ، وألح القوم على موسى . فقال لهم ليلة : لقد أكثرتم علي وفيما تريدون هلاككم ، فعلى أي وجه تقتلونه ، وأنا لا أغدر به ؟ قال له أخوه نوح : إذا أتاك غدا عدلنا به إلى بعض الدور ، فضربنا عنقه فيها قبل أن يصل إليك . فقال : والله إنه هلاككم ، وأنتم أعلم .

[ ص: 526 ] فخرج الغلام فأتى ثابتا فأخبره ، فخرج من ليلته في عشرين فارسا ومضى . وأصبحوا فلم يروه ولم يروا الغلام ، فعلموا أنه كان عينا له .

ونزل ثابت بحوشرا ، واجتمع إليه خلق كثير من العرب والعجم ، فأقبل موسى إليه وقاتله ، وتحصن ثابت بالمدينة ، وأتاه طرخون معينا له ، فرجع موسى إلى ترمذ ، وأقبل ثابت وطرخون ومعهما أهل بخارى ونسف وكش ، فاجتمعوا في ثمانين ألفا ، فحصروا موسى حتى جهد هو وأصحابه ، فلما اشتد عليهم قال يزيد بن هذيل : والله لأقتلن ثابتا أو لأموتن . فخرج إلى ثابت فاستأمنه ، فقال له ظهير : أنا أعرف بهذا منك ، ما أتاك إلا بغدره فاحذره ، فأخذ ابنيه قدامة والضحاك رهنا ، فكانا في يد ظهير .

وأقام يزيد يلتمس غرة ثابت فلم يقدر على ما يريد حتى مات ابن لزياد القصير الخزاعي ، فخرج ثابت إليه ليعزيه وهو بغير سلاح وقد غابت الشمس ، فدنا يزيد من ثابت فضربه على رأسه ، فوصل إلى الدماغ وهرب فسلم ، وأخذ طرخون قدامة والضحاك ابني يزيد فقتلهما ، وعاش ثابت سبعة أيام ومات ، وقام بأمر العجم بعد موت ثابت طرخون ، وقام ظهير بأمر أصحاب ثابت ، فقاما قياما ضعيفا ، وانتشر أمرهم وأجمع موسى على بياتهم ، فأخبر طرخون بذلك فضحك ، وقال : موسى يعجز أن يدخل متوضأه ، فكيف يبيتنا ؟ لا يحرس الليلة أحد .

فخرج موسى في ثمانمائة وجعلهم أرباعا وبيتهم ، وكان لا يمر بشيء إلا ضربوه ، من رجل ودابة وغير ذلك ، فلبس نيزك سلاحه ووقف ، وأرسل طرخون إلى موسى أن كف أصحابك ، فإنا نرحل إذا أصبحنا . فرجع موسى وارتحل طرخون والعجم جميعا .

فكان أهل خراسان يقولون : ما رأينا مثل موسى ولا سمعنا به ، قاتل مع أبيه سنتين ، ثم خرج يسير في بلاد خراسان ، فأتى ملكا فغلب على مدينته وأخرجه منها ، وسار الجنود من العرب والترك إليه ، وكان يقاتل العرب أول النهار والترك آخر النهار .

وأقام موسى في الحصن خمس عشرة سنة ، وصار ما وراء النهر لموسى لا ينازعه فيه أحد .

فلما عزل يزيد بن المهلب وولي المفضل أراد أن يحظى عند الحجاج بقتال موسى بن عبد الله ، فسير عثمان بن مسعود إليه في جيش ، وكتب إلى مدرك بن المهلب وهو ببلخ يأمره بالمسير معه ، فعبر النهر في خمسة عشر ألفا ، فكتب إلى السبل وإلى [ ص: 527 ] طرخون فقدموا عليه ، فحصروا موسى وضيقوا عليه وعلى أصحابه .

فمكث شهرين في ضيق ، وقد خندق عثمان عليه وحذر البيات ، فقال موسى لأصحابه : اخرجوا بنا ، حتى متى نصبر ، فاجعلوا يومكم معهم إما ظفرتم وإما قتلتم ، واقصدوا الترك . فخرجوا وخلف النضر بن سليمان بن عبد الله بن خازم في المدينة ، وقال له : إن قتلت فلا تدفعن المدينة إلى عثمان ، وادفعها إلى مدرك بن المهلب . وخرج وجعل ثلث أصحابه بإزاء عثمان ، وقال : لا تقاتلوه إلا أن يقاتلكم . وقصد لطرخون وأصحابه فصدقوهم القتال ، فانهزم طرخون وأخذوا عسكرهم ، وزحفت الترك والصغد فحالوا بين موسى والحصن ، فقاتلهم ، فعقروا فرسه فسقط ، فقال لمولى له : احملني ، فقال : الموت كريه ، ولكن ارتدف ، فإن نجونا نجونا جميعا ، وإن هلكنا هلكنا جميعا . قال : فارتدف ، فلما نظر إليه عثمان حين وثب قال : وثبة موسى ورب الكعبة ! وقصد إلى موسى ، وعقرت دابة موسى فسقط هو ومولاه ، فقتلوه ، ونادى منادي عثمان : من لقيتموه فخذوه أسيرا ، ولا تقتلوا أحدا .

فقتل ذلك اليوم من الأسرى خلقا كثيرا من العرب خاصة ، فكان يقتل العرب ، ويضرب المولى ويطلقه ، وكان فظا غليظا .

وكان الذي أجهز على موسى واصل بن طيسلة العنبري .

وبقيت المدينة بيد النضر بن سليمان ، فلم يدفعها إلى عثمان ، وسلمها إلى مدرك بن المهلب وآمنه ، فسلمها مدرك إلى عثمان . وكتب المفضل إلى الحجاج بقتل موسى فقال : العجب منه ! أكتب إليه بقتل ابن سبرة فيكتب إلي أنه لمآبه ، ويكتب إلي أنه قد قتل موسى بن عبد الله بن خازم . ولم يسره قتل موسى لأنه من قيس .

وقتل موسى سنة خمس وثمانين ، وضرب رجل من الجند ساق موسى ، فلما ولي قتيبة قال : ما دعاك إلى ما صنعت بفتى العرب بعد موته ؟ قال : كان قتل أخي . فأمر به فقتل .

التالي السابق


الخدمات العلمية