الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر ولاية عبيد الله بن الحبحاب إفريقية والأندلس

في هذه السنة استعمل هشام بن عبد الملك على إفريقية والأندلس عبيد الله بن الحبحاب وأمره بالمسير إليها ، وكان واليا على مصر ، فاستخلف عليها ولده وسار إلى إفريقية ، واستعمل على الأندلس عقبة بن ( الحجاج ، واستعمل على طنجة ابنه إسماعيل ، وبعث حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن ) نافع غازيا إلى المغرب ، فبلغ السوس الأقصى وأرض السودان ، فلم يقاتله أحد إلا ظهر عليه ، وأصاب من الغنائم والسبي أمرا عظيما ، فملئ أهل المغرب منه رعبا ، وأصاب بالسبي جاريتين من البربر ليس لكل واحدة منهما غير ثدي واحد ، ورجع سالما . وسير جيشا في البحر سنة سبع عشرة إلى جزيرة السردانية ، ففتحوا منها ونهبوا وعادوا . ثم سيره غازيا إلى جزيرة صقلية سنة اثنتين ومائة ومعه ابنه عبد الرحمن بن حبيب ، فلما نزل بأرضها وجه عبد الرحمن على الخيل ، فلم يلقه أحد إلا هزمه عبد الرحمن ، فظفر ظفرا لم ير مثله ، حتى نزل على مدينة سرقوسة ، وهي من أعظم مدن صقلية ، فقاتلوه فهزمهم وحصرهم ، فصالحوه على الجزية ، وعاد إلى أبيه ، وعزم حبيب على المقام بصقلية إلى أن يملكها جميعا ، فأتاه كتاب ابن الحبحاب يستدعيه إلى إفريقية .

[ ص: 225 ] وكان سبب ذلك أنه استعمل على طنجة ابنه إسماعيل ، وجعل معه عمر بن عبد الله المرادي ، فأساء السيرة وتعدى ، وأراد أن يخمس مسلمي البربر ، وزعم أنهم فيء للمسلمين ، وذلك شيء لم يرتكبه أحد قبله ، فلما سمع البربر بمسير حبيب بن عبيدة إلى صقلية بالعساكر طمعوا ونقضوا الصلح على ابن الحبحاب ، وتداعت عليه بأسرها مسلمها وكافرها ، وعظم البلاء ، وقدم من بطنجة من البربر على أنفسهم ميسرة السقاء ثم المدغوري ، وكان خارجيا صفريا وسقاء ، وقصدوا طنجة ، فقاتلهم عمر بن عبد الله فقتلوه ، واستولوا على طنجة ، وبايعوا ميسرة بالخلافة وخوطب بأمير المؤمنين ، وكثر جمعه من البربر ، وقوي أمره بنواحي طنجة .

وظهر في ذلك الوقت جماعة بإفريقية ، فأظهروا مقالة الخوارج ، فأرسل ابن الحبحاب إلى حبيب وهو بصقلية يستدعيه إليه لقتال ميسرة السقاء ، لأن أمره كان قد عظم ، فعاد إلى إفريقية .

وكان ابن الحبحاب قد سير خالد بن حبيب في جيش إلى ميسرة ، فلما وصل حبيب بن أبي عبيدة سيره في أثره ، والتقى خالد وميسرة بنواحي طنجة ، واقتتلوا قتالا شديدا لم يسمع بمثله ، وعاد ميسرة إلى طنجة ، فأنكرت البربر سيرته ، وكانوا بايعوه بالخلافة ، فقتلوه وولوا أمرهم خالد بن حميد الزناتي ، ثم التقى خالد بن حميد ومعه البربر بخالد بن حبيب ومعه العرب وعسكر هشام ، وكان بينهم قتال شديد صبرت فيه العرب ، وظهر عليهم كمين من البربر فانهزموا ، وكره خالد بن حبيب أن ينهزم من البربر فصبروا معه فقتلوا جميعهم .

وقتل في هذه الوقعة حماة العرب وفرسانها ، فسميت غزوة الأشراف ، وانتقضت البلاد ، وخرج أمر الناس ، وبلغ أهل الأندلس الخبر فثاروا بأميرهم عقبة بن الحجاج فعزلوه وولوا عبد الملك بن قطن ، فاختلطت الأمور على ابن الحبحاب ، وبلغ الخبر هشام بن عبد الملك ، فقال : لأغضبن للعرب غضبة ، وأسير جيشا يكون أولهم عندهم وآخرهم عندي ، ثم كتب إلى ابن الحبحاب يأمره بالحضور ، فسار إليه في جمادى سنة ثلاث وعشرين ومائة ، واستعمل هشام عوضه كلثوم بن عياض القشيري وسير معه جيشا كثيفا ، وكتب إلى سائر البلاد التي على طريقه بالمسير معه ، فوصل إفريقية وعلى مقدمته بلج بن بشر ، فوصل إلى القيروان ولقي أهلها بالجفاء والتكبر عليهم ، وأراد أن ينزل العسكر الذي معه في منازلهم ، فكتب أهلها إلى حبيب بن أبي عبيدة ، وهو بتلمسان [ ص: 226 ] مواقف البربر ، يشكون إليه بلجا وكلثوما ، فكتب حبيب إلى كلثوم يقول له : إن بلجا فعل كيت وكيت ، فارحل عن البلد وإلا رددنا أعنة الخيل إليك .

فاعتذر كلثوم وسار إلى حبيب وعلى مقدمته بلج بن بشر ، فاستخف بحبيب وسبه ، وجرى بينهما منازعة ، ثم اصطلحوا واجتمعوا على قتال البربر ، وتقدم إليهم البربر من طنجة ، فقال لهم حبيب : اجعلوا الرجالة للرجالة والخيالة للخيالة ، فلم يقبلوا منه ، وتقدم كلثوم بالخيل ، فقاتله رجالة البربر فهزموه ، فعاد إلى كلثوم منهزما ، ووهن الناس ذلك ونشب القتال ، وانكشفت خيالة البربر وثبتت رجالتها واشتد القتال وكثر البربر عليهم ، فقتل كلثوم بن عياض وحبيب بن أبي عبيدة ووجوه العرب ، وانهزمت العرب وتفرقوا .

فمضى أهل الشام إلى الأندلس ومعهم بلج بن بشر وعبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة ، وعاد بعضهم إلى القيروان .

فلما ضعفت العرب بهذه الوقعة ظهر إنسان يقال له عكاشة ( بن أيوب الفزاري بمدينة قابس ، وهو على رأي الخوارج الصفرية ، فسار إليه جيش من القيروان فاقتتلوا قتالا شديدا ، فانهزم عسكر القيروان ، فخرج إليه عسكر آخر فانهزم عكاشة بعد قتال شديد وقتل كثير من أصحابه ، ولحق عكاشة ) ببلاد الرمل .

فلما بلغ هشام بن عبد الملك قتل كلثوم بعث أميرا على إفريقية حنظلة بن صفوان الكلبي ، فوصلها في ربيع الآخر سنة أربع وعشرين ومائة ، فلم يمكث بالقيروان إلا يسيرا حتى زحف إليه عكاشة الخارجي في جمع عظيم من البربر ، وكان حين انهزم حشدهم ليأخذ بثأره وأعانه عبد الواحد بن يزيد الهواري ثم المدغمي ، وكان صفريا ، في عدد كثير وافترقا ليقصدا القيروان من جهتين ، فلما قرب عكاشة خرج إليه حنظلة ولقيه منفردا واقتتلوا قتالا شديدا ، وانهزم عكاشة وقتل من البربر ما لا يحصى ، وعاد حنظلة إلى القيروان خوفا عليها من عبد الواحد ، وسير إليه جيشا كثيفا عدتهم أربعون ألفا ، فساروا إليه ، فلما قاربوه لم يجدوا شعيرا يطعمونه دوابهم فأطعموها حنطة ، ثم لقوه من الغد فانهزموا من عبد الواحد وعادوا إلى القيروان ، وهلكت دوابهم بسبب الحنطة .

فلما وصلوها نظروا وإذا قد هلك منهم عشرون ألف فرس ، وسار عبد الواحد فنزل على ثلاثة أميال من القيروان بموضع يعرف بالأصنام ، وقد اجتمع معه ثلاثمائة ألف مقاتل ، فحشد حنظلة كل من بالقيروان وفرق فيهم السلاح والمال ، فكثر جمعه ، فلما دنا الخوارج مع عبد الواحد خرج إليهم حنظلة من القيروان واصطفوا للقتال ، وقام العلماء في أهل القيروان يحثونهم على الجهاد وقتال الخوارج ويذكرونهم ما يفعلونه [ ص: 227 ] بالنساء من السبي وبالأبناء من الاسترقاق وبالرجال من القتل ، فكسر الناس أجفان سيوفهم ، وخرج إليهم نساؤهم يحرضنهم ، فحمي الناس وحملوا على الخوارج حملة واحدة وثبت بعضهم لبعض ، فاشتد اللزام وكثر الزحام وصبر الفريقان ، ثم إن الله تعالى هزم الخوارج والبربر ونصر العرب ، وكثر القتل في البربر وتبعوهم إلى جلولاء يقتلون ، ولم يعلموا أن عبد الواحد قد قتل حتى حمل رأسه إلى حنظلة ، فخر الناس لله سجدا .

فقيل : لم يقتل بالمغرب أكثر من هذه القتلة ، فإن حنظلة أمر بإحصاء القتلى ، فعجز الناس عن ذلك حتى عدوهم بالقصب ، فكانت عدة القتلى مائة ألف وثمانين ألفا ، ثم أسر عكاشة مع طائفة أخرى بمكان آخر وحمل إلى حنظلة فقتله ، وكتب حنظلة إلى هشام بن عبد الملك بالفتح ، وكان الليث بن سعد يقول : ما غزوة إلى الآن أشد بعد غزوة بدر من غزوة العرب بالأصنام .

التالي السابق


الخدمات العلمية