الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

وإذا تأملت أحوال هذا الخلق ، رأيت هذا الاختيار والتخصيص فيه دالا على ربوبيته تعالى ووحدانيته وكمال حكمته وعلمه وقدرته ، وأنه الله الذي لا إله إلا هو فلا شريك له يخلق كخلقه ، ويختار كاختياره ، ويدبر كتدبيره ، فهذا الاختيار والتدبير والتخصيص المشهود أثره في هذا العالم من أعظم آيات ربوبيته ، وأكبر شواهد وحدانيته ، وصفات كماله ، وصدق رسله ، فنشير منه إلى يسير يكون منبها على ما وراءه دالا على ما سواه .

فخلق الله السماوات سبعا فاختار العليا منها فجعلها مستقر المقربين من ملائكته ، واختصها بالقرب من كرسيه ومن عرشه ، وأسكنها من شاء من خلقه ، فلها مزية وفضل على سائر السماوات ، ولو لم يكن إلا قربها منه تبارك وتعالى .

وهذا التفضيل والتخصيص مع تساوي مادة السماوات من أبين الأدلة على كمال قدرته وحكمته ، وأنه يخلق ما يشاء ويختار .

[ ص: 44 ] ومن هذا تفضيله سبحانه جنة الفردوس على سائر الجنان ، وتخصيصها بأن جعل عرشه سقفها ، وفي بعض الآثار : " إن الله سبحانه غرسها بيده واختارها لخيرته من خلقه " .

ومن هذا اختياره من الملائكة المصطفين منهم على سائرهم ، كجبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل ، فاطر السماوات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم ) .

فذكر هؤلاء الثلاثة من الملائكة لكمال اختصاصهم ، واصطفائهم ، وقربهم من الله ، وكم من ملك غيرهم في السماوات ، فلم يسم إلا هؤلاء الثلاثة . فجبريل : صاحب الوحي الذي به حياة القلوب والأرواح ، وميكائيل : صاحب القطر الذي به حياة الأرض والحيوان والنبات ، وإسرافيل : صاحب الصور الذي إذا نفخ فيه أحيت نفخته بإذن الله الأموات ، وأخرجتهم من قبورهم .

، وكذلك اختياره سبحانه للأنبياء من ولد آدم عليه وعليهم الصلاة [ ص: 45 ] والسلام ، وهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا ، واختياره الرسل منهم ، وهم ثلاثمائة وثلاثة عشر ، على ما في حديث أبي ذر الذي رواه أحمد ، وابن حبان في " صحيحه " ، واختياره أولي العزم منهم ، وهم خمسة المذكورون في سورة (الأحزاب) و(الشورى) في قوله تعالى: ( وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم ) [ الأحزاب : 7 ] ، وقال تعالى: ( شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ) [ الشورى : 13 ] ، واختار منهم الخليلين إبراهيم ومحمدا صلى الله عليهما وآلهما وسلم .

ومن هذا اختياره سبحانه ولد إسماعيل من أجناس بني آدم ، ثم اختار منهم بني كنانة من خزيمة ، ثم اختار من ولد كنانة قريشا ، ثم اختار من قريش بني هاشم ، ثم اختار من بني هاشم سيد ولد آدم محمدا صلى الله عليه وسلم .

[ ص: 46 ] وكذلك اختار أصحابه من جملة العالمين ، واختار منهم السابقين الأولين ، واختار منهم أهل بدر ، وأهل بيعة الرضوان ، واختار لهم من الدين أكمله ، ومن الشرائع أفضلها ، ومن الأخلاق أزكاها وأطيبها وأطهرها .

واختار أمته صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم ، كما في " مسند الإمام أحمد " وغيره من حديث بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة ، عن أبيه ، عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أنتم موفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله ) . قال علي بن المديني وأحمد : حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده صحيح .

وظهر أثر هذا الاختيار في أعمالهم ، وأخلاقهم ، وتوحيدهم ، ومنازلهم في الجنة ، ومقاماتهم في الموقف ، فإنهم أعلى من الناس على تل فوقهم يشرفون عليهم ، وفي الترمذي من حديث بريدة بن الحصيب الأسلمي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أهل الجنة عشرون ومائة صف ، ثمانون منها من هذه الأمة ، وأربعون من سائر الأمم ) قال الترمذي : هذا حديث حسن . والذي في " الصحيح " من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث بعث النار ( والذي نفسي بيده إني لأطمع أن تكونوا شطر أهل ) [ ص: 47 ] ( الجنة ) ، ولم يزد على ذلك . فإما أن يقال : هذا أصح ، وإما أن يقال : إن النبي صلى الله عليه وسلم طمع أن تكون أمته شطر أهل الجنة ، فأعلمه ربه فقال : ( إنهم ثمانون صفا من مائة وعشرين صفا ) ، فلا تنافي بين الحديثين ، والله أعلم .

ومن تفضيل الله لأمته واختياره لها أنه وهبها من العلم والحلم ما لم يهبه لأمة سواها ، وفي " مسند البزار " وغيره من حديث أبي الدرداء قال : سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول : ( إن الله تعالى قال لعيسى ابن مريم : إني باعث من بعدك أمة إن أصابهم ما يحبون حمدوا وشكروا ، وإن أصابهم ما يكرهون احتسبوا وصبروا ، ولا حلم ولا علم ، قال : يا رب ، كيف هذا ولا حلم ولا علم ؟ قال : أعطيهم من حلمي وعلمي ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية