الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الحادي عشر : أن فسخ الحج إلى العمرة ، موافق لقياس الأصول ، لا [ ص: 202 ] مخالف له . ولو لم يرد به النص ، لكان القياس يقتضي جوازه ، فجاء النص به على وفق القياس ، قاله شيخ الإسلام ، وقرره بأن المحرم إذا التزم أكثر مما كان لزمه جاز باتفاق الأئمة .

فلو أحرم بالعمرة ثم أدخل عليها الحج ، جاز بلا نزاع ، وإذا أحرم بالحج ثم أدخل عليه العمرة لم يجز عند الجمهور ، وهو مذهب مالك ، وأحمد ، والشافعي في ظاهر مذهبه ، وأبو حنيفة يجوز ذلك بناء على أصله في أن القارن يطوف طوافين ، ويسعى سعيين . قال وهذا قياس الرواية المحكية عنأحمد في القارن : أنه يطوف طوافين ويسعى سعيين . وإذا كان كذلك فالمحرم بالحج لم يلتزم إلا الحج .

فإذا صار متمتعا ، صار ملتزما لعمرة وحج ، فكان ما التزمه بالفسخ أكثر مما كان عليه فجاز ذلك .

ولما كان أفضل ، كان مستحبا ، وإنما أشكل هذا على من ظن أنه فسخ حجا إلى عمرة ، وليس كذلك فإنه لو أراد أن يفسخ الحج إلى عمرة مفردة لم يجز بلا نزاع ، وإنما الفسخ جائز لمن كان من نيته أن يحج بعد العمرة ، والمتمتع من حين يحرم بالعمرة فهو داخل في الحج ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة " ولهذا ، يجوز له أن يصوم الأيام الثلاثة من حين يحرم بالعمرة ، فدل على أنه في تلك الحال في الحج . وأما إحرامه بالحج بعد ذلك ، فكما يبدأ الجنب بالوضوء ، ثم يغتسل بعده .

وكذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل . إذا اغتسل من الجنابة . وقال للنسوة في غسل ابنته : " ابدأن بميامنها ، ومواضع الوضوء منها ". فغسل مواضع الوضوء بعض الغسل .

فإن قيل هذا باطل لثلاثة أوجه .

أحدها : أنه إذا فسخ ، استفاد بالفسخ حلا كان ممنوعا منه بإحرامه الأول فهو دون ما التزمه .

[ ص: 203 ] الثاني : أن النسك الذي كان قد التزمه أولا ، أكمل من النسك الذي فسخ إليه ، ولهذا لا يحتاج الأول إلى جبران ، والذي يفسخ إليه ، يحتاج إلى هدي جبرانا له ، ونسك لا جبران فيه أفضل من نسك مجبور .

الثالث : أنه إذا لم يجز إدخال العمرة على الحج ، فلأن لا يجوز إبدالها به وفسخه إليها بطريق الأولى والأحرى .

فالجواب عن هذه الوجوه من طريقين ، مجمل ومفصل .

أما المجمل : فهو أن هذه الوجوه اعتراضات على مجرد السنة ، والجواب عنها بالتزام تقديم الوحي على الآراء ، وأن كل رأي يخالف السنة فهو باطل قطعا ، وبيان بطلانه لمخالفة السنة الصحيحة الصريحة له ، والآراء تبع للسنة ، وليست السنة تبعا للآراء .

وأما المفصل : وهو الذي نحن بصدده فإنا التزمنا أن الفسخ على وفق القياس فلا بد من الوفاء بهذا الالتزام ، وعلى هذا فالوجه الأول جوابه : بأن التمتع - وإن تخلله التحلل - فهو أفضل من الإفراد الذي لا حل فيه ، لأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - من لا هدي معه بالإحرام به ، ولأمره أصحابه بفسخ الحج إليه ، ولتمنيه أنه كان أحرم به ، ولأنه النسك المنصوص عليه في كتاب الله ، ولأن الأمة أجمعت على جوازه ، بل على استحبابه ، واختلفوا في غيره على قولين ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، غضب حين أمرهم بالفسخ إليه بعد الإحرام بالحج فتوقفوا ، ولأنه من المحال قطعا أن تكون حجة قط أفضل من حجة خير القرون وأفضل العالمين مع نبيهم - صلى الله عليه وسلم - ، وقد أمرهم كلهم بأن يجعلوها متعة إلا من ساق الهدي ، فمن المحال أن يكون غير هذا الحج أفضل منه ، إلا حج من قرن وساق الهدي ، كما اختاره الله سبحانه لنبيه ، فهذا هو الذي اختاره الله لنبيه واختار لأصحابه التمتع ، فأي حج أفضل من هذين . ولأنه من المحال أن ينقلهم من النسك الفاضل إلى المفضول المرجوح ، ولوجوه أخر كثيرة [ ص: 204 ] ليس هذا موضعها ، فرجحان هذا النسك أفضل من البقاء على الإحرام الذي يفوته بالفسخ ، وقد تبين بهذا بطلان الوجه الثاني .

وأما قولكم : إنه نسك مجبور بالهدي ، فكلام باطل من وجوه .

أحدها : أن الهدي في التمتع عبادة مقصودة ، وهو من تمام النسك ، وهو دم شكران لا دم جبران ، وهو بمنزلة الأضحية للمقيم ، وهو من تمام عبادة هذا اليوم ، فالنسك المشتمل على الدم بمنزلة العيد المشتمل على الأضحية ، فإنه ما تقرب إلى الله في ذلك اليوم بمثل إراقة دم سائل .

وقد روى الترمذي وغيره من حديث أبي بكر الصديق ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل : أي الحج أفضل ؟ فقال : " العج والثج " . والعج : رفع الصوت بالتلبية ، والثج : إراقة دم الهدي . فإن قيل : يمكن المفرد أن يحصل هذه الفضيلة . قيل : مشروعيتها إنما جاءت في حق القارن والمتمتع ، وعلى تقدير استحبابها في حقه ، فأين ثوابها من ثواب هدي المتمتع والقارن ؟

الوجه الثاني : إنه لو كان دم جبران ، لما جاز الأكل منه ، وقد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أكل من هديه ، فإنه أمر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر ، [ ص: 205 ] فأكل من لحمها ، وشرب من مرقها . وإن كان الواجب عليه سبع بدنة ، فإنه أكل من كل بدنة من المائة ، والواجب فيها مشاع لم يتعين بقسمة .

وأيضا : فإنه قد ثبت في " الصحيحين " : أنه أطعم نساءه من الهدي الذي ذبحه عنهن وكن متمتعات ، احتج به الإمام أحمد ، فثبت في " الصحيحين " عن عائشة - رضي الله عنها - ، أنه أهدى عن نسائه ، ثم أرسل إليهن من الهدي الذي ذبحه عنهن . وأيضا : فإن الله سبحانه وتعالى قال فيما يذبح بمنى من الهدي : ( فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير ) [ الحج : 28 ] وهذا يتناول هدي التمتع والقران قطعا إن لم يختص به ، فإن المشروع هناك ذبح هدي المتعة والقران .

ومن هاهنا والله أعلم أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - ، من كل بدنة ببضعة ، فجعلت في قدر امتثالا لأمر ربه بالأكل ليعم به جميع هديه .

الوجه الثالث : أن سبب الجبران محظور في الأصل ، فلا يجوز الإقدام عليه إلا لعذر ، فإنه إما ترك واجب ، أو فعل محظور ، والتمتع مأمور به ، إما أمر إيجاب عند طائفة كابن عباس وغيره ، أو أمر استحباب عند الأكثرين ، فلو كان دمه دم جبران ، لم يجز الإقدام على سببه بغير عذر ، فبطل قولهم إنه دم جبران ، وعلم أنه دم نسك ، وهذا وسع الله به على عباده ، وأباح لهم بسببه التحلل في أثناء الإحرام لما في استمرار الإحرام عليهم من المشقة ، فهو بمنزلة القصر والفطر في السفر ، وبمنزلة المسح على الخفين ، وكان من هدي النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهدي أصحابه فعل هذا وهذا ، " والله تعالى يحب أن يؤخذ برخصه ، كما يكره أن تؤتى معصيته ". فمحبته لأخذ العبد بما يسره عليه [ ص: 206 ] وسهله له ، مثل كراهته منه لارتكاب ما حرمه عليه ومنعه منه . والهدي وإن كان بدلا عن ترفهه بسقوط أحد السفرين ، فهو أفضل لمن قدم في أشهر الحج من أن يأتي بحج مفرد ويعتمر عقيبه ، والبدل قد يكون واجبا كالجمعة عند من جعلها بدلا ، وكالتيمم للعاجز عن استعمال الماء فإنه واجب عليه وهو بدل ، فإذا كان البدل قد يكون واجبا ، فكونه مستحبا أولى بالجواز وتخلل التحلل لا يمنع أن يكون الجميع عبادة واحدة كطواف الإفاضة ، فإنه ركن بالاتفاق ، ولا يفعل إلا بعد التحلل الأول ، وكذلك رمي الجمار أيام منى ، وهو يفعل بعد الحل التام ، وصوم رمضان يتخلله الفطر في لياليه ، ولا يمنع ذلك أن يكون عبادة واحدة .

ولهذا قال مالك وغيره إنه يجزئ بنية واحدة للشهر كله لأنه عبادة واحدة . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية