الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

فلما رأى المشركون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تجهزوا وخرجوا وحملوا ، وساقوا الذراري والأطفال والأموال إلى الأوس والخزرج ، وعرفوا أن الدار دار منعة ، وأن القوم أهل حلقة وشوكة وبأس ، فخافوا خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ولحوقه بهم ، فيشتد عليهم أمره ، فاجتمعوا في دار الندوة ، ولم يتخلف أحد من أهل الرأي والحجا منهم ليتشاوروا في أمره ، وحضرهم وليهم وشيخهم إبليس في صورة شيخ كبير من أهل نجد مشتمل الصماء في كسائه ، فتذاكروا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأشار كل أحد منهم برأي ، والشيخ يرده ولا يرضاه ، إلى أن قال أبو جهل : قد فرق لي فيه رأي ما أراكم قد وقعتم عليه ، قالوا : ما هو ؟ قال : أرى أن نأخذ من كل قبيلة من قريش غلاما نهدا جلدا ، ثم نعطيه سيفا صارما ، فيضربونه [ ص: 46 ] ضربة رجل واحد ، فيتفرق دمه في القبائل ، فلا تدري بنو عبد مناف بعد ذلك كيف تصنع ، ولا يمكنها معاداة القبائل كلها ، ونسوق إليهم ديته ، فقال الشيخ : لله در الفتى ، هذا والله الرأي ، قال : فتفرقوا على ذلك ، واجتمعوا عليه ، فجاءه جبريل بالوحي من عند ربه تبارك وتعالى ، فأخبره بذلك ، وأمره أن لا ينام في مضجعه تلك الليلة .

( وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بكر نصف النهار في ساعة لم يكن يأتيه فيها متقنعا ، فقال له : " أخرج من عندك " فقال : إنما هم أهلك يا رسول الله ، فقال : إن الله قد أذن لي في الخروج ، فقال أبو بكر : الصحابة يا رسول الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم ، فقال أبو بكر : فخذ بأبي وأمي إحدى راحلتي هاتين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بالثمن ) .

وأمر عليا أن يبيت في مضجعه تلك الليلة ، واجتمع أولئك النفر من قريش يتطلعون من صير الباب ويرصدونه ، ويريدون بياته ، ويأتمرون أيهم يكون أشقاها ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم فأخذ حفنة من البطحاء ، فجعل يذره على رءوسهم ، وهم لا يرونه ، وهو يتلو : ( وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون ) [ يس : 9 ] ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر ، فخرجا من خوخة في دار أبي بكر ليلا ، وجاء رجل ورأى القوم ببابه فقال : ما تنتظرون ؟ قالوا : محمدا ، قال : خبتم وخسرتم ، قد والله مر بكم وذر على رءوسكم التراب ، قالوا : والله ما أبصرناه ، وقاموا ينفضون التراب عن رءوسهم ، وهم : أبو جهل ، والحكم بن العاص ، وعقبة بن أبي معيط ، [ ص: 47 ] والنضر بن الحارث ، وأمية بن خلف ، وزمعة بن الأسود ، وطعيمة بن عدي ، وأبو لهب ، وأبي بن خلف ، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج ، فلما أصبحوا قام علي عن الفراش فسألوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : لا علم لي به .

ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى غار ثور ، فدخلاه ، وضرب العنكبوت على بابه .

وكانا قد استأجرا عبد الله بن أريقط الليثي ، وكان هاديا ماهرا بالطريق ، وكان على دين قومه من قريش ، وأمناه على ذلك ، وسلما إليه راحلتيهما ، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ، وجدت قريش في طلبهما ، وأخذوا معهم القافة ، حتى انتهوا إلى باب الغار ، فوقفوا عليه .

ففي " الصحيحين " ( أن أبا بكر قال : يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى [ ص: 48 ] ما تحت قدميه لأبصرنا ، فقال : يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ، لا تحزن فإن الله معنا ) وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يسمعان كلامهم فوق رءوسهما ، ولكن الله سبحانه عمى عليهم أمرهما ، وكان عامر بن فهيرة يرعى عليهما غنما لأبي بكر ، ويتسمع ما يقال بمكة ، ثم يأتيهما بالخبر ، فإذا كان السحر سرح مع الناس .

قالت عائشة : وجهزناهما أحسن الجهاز ، ووضعنا لهما سفرة في جراب ، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها ، فأوكت به الجراب ، وقطعت الأخرى فصيرتها عصاما لفم القربة ، فلذلك لقبت ، ذات النطاقين .

وذكر الحاكم في " مستدركه " عن عمر قال : ( خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغار ، ومعه أبو بكر ، فجعل يمشي ساعة بين يديه ، وساعة خلفه ، حتى فطن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله ، فقال له : يا رسول الله أذكر الطلب فأمشي خلفك ، ثم أذكر الرصد ، فأمشي بين يديك ، فقال : يا أبا بكر لو كان شيء أحببت أن يكون بك [ ص: 49 ] دوني ؟ قال : نعم ، والذي بعثك بالحق ، فلما انتهى إلى الغار ، قال أبو بكر : مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ لك الغار ، فدخل فاستبرأه ، حتى إذا كان في أعلاه ذكر أنه لم يستبرئ الجحرة ، فقال : مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ الجحرة ، ثم قال : انزل يا رسول الله فنزل ) ، فمكثا في الغار ثلاث ليال حتى خمدت عنهما نار الطلب ، فجاءهما عبد الله بن أريقط بالراحلتين فارتحلا وأردف أبو بكر عامر بن فهيرة وسار الدليل أمامهما ، وعين الله تكلؤهما ، وتأييده يصحبهما ، وإسعاده يرحلهما وينزلهما .

ولما يئس المشركون من الظفر بهما جعلوا لمن جاء بهما دية كل واحد منهما ، فجد الناس في الطلب ، والله غالب على أمره ، فلما مروا بحي بني مدلج مصعدين من قديد ، بصر بهم رجل من الحي ، فوقف على الحي فقال : لقد رأيت آنفا بالساحل أسودة ما أراها إلا محمدا وأصحابه ، ففطن بالأمر سراقة بن مالك ، فأراد أن يكون الظفر له خاصة وقد سبق له من الظفر ما لم يكن في حسابه فقال : بل هم فلان وفلان ، خرجا في طلب حاجة لهما ، ثم مكث قليلا ثم قام فدخل خباءه وقال لخادمه : اخرج بالفرس من وراء الخباء وموعدك وراء الأكمة ، ثم أخذ رمحه وخفض عاليه يخط به الأرض ، حتى ركب فرسه ، فلما قرب منهم وسمع قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر يكثر الالتفات ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يلتفت ، فقال أبو بكر : يا رسول الله هذا سراقة بن مالك قد رهقنا ، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فساخت يدا فرسه في الأرض ، فقال : قد علمت أن الذي أصابني بدعائكما ، فادعوا الله لي ، ولكما علي أن أرد الناس عنكما ، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأطلق ، وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكتب له كتابا ، فكتب له أبو [ ص: 50 ] بكر بأمره في أديم ، وكان الكتاب معه إلى يوم فتح مكة ، فجاءه بالكتاب فوفاه له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : يوم وفاء وبر ، وعرض عليهما الزاد والحملان ، فقالا : لا حاجة لنا به ولكن عم عنا الطلب ، فقال : قد كفيتم ، ورجع فوجد الناس في الطلب ، فجعل يقول: قد استبرأت لكم الخبر ، وقد كفيتم ما هاهنا ، وكان أول النهار جاهدا عليهما ، وآخره حارسا لهما .

التالي السابق


الخدمات العلمية