الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

في هديه في الأرض المغنومة

ثبت عنه أنه قسم أرض بني قريظة وبني النضير وخيبر بين الغانمين ، وأما المدينة ، ففتحت بالقرآن ، وأسلم عليها أهلها ، فأقرت بحالها . وأما مكة ، ففتحها عنوة ، ولم يقسمها ، فأشكل على كل طائفة من العلماء الجمع بين فتحها عنوة ، وترك قسمتها ، فقالت طائفة : لأنها دار المناسك ، وهي وقف على المسلمين كلهم ، وهم فيها سواء ، فلا يمكن قسمتها ، ثم من هؤلاء من منع بيعها وإجارتها ، ومنهم من جوز بيع رباعها ، ومنع إجارتها ، والشافعي لما لم يجمع بين العنوة ، وبين عدم القسمة ، قال : إنها فتحت صلحا ، فلذلك لم تقسم . قال : ولو فتحت عنوة ، لكانت غنيمة ، فيجب قسمتها كما تجب قسمة الحيوان والمنقول ، ولم ير بأسا من بيع رباع مكة ، وإجارتها ، واحتج بأنها ملك لأربابها تورث عنهم وتوهب ، وقد أضافها الله سبحانه إليهم إضافة الملك إلى مالكه ، واشترى عمر بن الخطاب دارا من صفوان بن أمية ، ( وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم : أين تنزل غدا في دارك بمكة ؟ فقال : وهل ترك لنا عقيل من رباع أو دور ) وكان عقيل ورث أبا طالب ، فلما كان أصل الشافعي أن الأرض من الغنائم ، وأن الغنائم تجب [ ص: 107 ] قسمتها ، وأن مكة تملك وتباع ، ورباعها ودورها لم تقسم لم يجد بدا من القول بأنها فتحت صلحا .

لكن من تأمل الأحاديث الصحيحة ، وجدها كلها دالة على قول الجمهور ، أنها فتحت عنوة . ثم اختلفوا لأي شيء لم يقسمها ؟ فقالت طائفة : لأنها دار النسك ومحل العبادة ، فهي وقف من الله على عباده المسلمين . وقالت طائفة : الإمام مخير في الأرض بين قسمتها وبين وقفها ، والنبي صلى الله عليه وسلم قسم خيبر ، ولم يقسم مكة ، فدل على جواز الأمرين . قالوا : والأرض لا تدخل في الغنائم المأمور بقسمتها ، بل الغنائم هي الحيوان والمنقول ، لأن الله تعالى لم يحل الغنائم لأمة غير هذه الأمة ، وأحل لهم ديار الكفر وأرضهم كما قال تعالى : ( وإذ قال موسى لقومه ياقوم اذكروا نعمة الله عليكم ) إلى قوله : ( ياقوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ) [ المائدة : 20 ، 21 ] ، وقال في ديار فرعون وقومه وأرضهم : ( كذلك وأورثناها بني إسرائيل ) [ الشعراء : 59 ] ، فعلم أن الأرض لا تدخل في الغنائم ، والإمام مخير فيها بحسب المصلحة ، وقد قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك ، وعمر لم يقسم ، بل أقرها على حالها وضرب عليها خراجا مستمرا في رقبتها يكون للمقاتلة ، فهذا معنى وقفها ، ليس معناه الوقف الذي يمنع من نقل الملك في الرقبة ، بل يجوز بيع هذه الأرض كما هو عمل الأمة ، وقد أجمعوا على أنها تورث ، والوقف لا يورث ، وقد نص الإمام أحمد - رحمه الله تعالى - على أنها يجوز أن تجعل صداقا ، والوقف لا يجوز أن يكون مهرا في النكاح ، ولأن الوقف إنما امتنع بيعه ونقل الملك في رقبته لما في ذلك من إبطال حق البطون الموقوف عليهم من منفعته ، والمقاتلة حقهم في خراج الأرض ، فمن اشتراها صارت عنده خراجية ، كما كانت عند البائع سواء ، فلا يبطل حق أحد من المسلمين بهذا البيع ، كما لم يبطل بالميراث والهبة والصداق ، ونظير هذا بيع رقبة المكاتب ، وقد انعقد فيه سبب الحرية بالكتابة ، فإنه ينتقل إلى المشتري مكاتبا كما كان عند البائع ، ولا يبطل ما انعقد في حقه من سبب العتق ببيعه ، والله أعلم .

[ ص: 108 ] ومما يدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم نصف أرض خيبر خاصة ، ولو كان حكمها حكم الغنيمة ، لقسمها كلها بعد الخمس ، ففي " السنن " و " المستدرك " : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ظهر على خيبر قسمها على ستة وثلاثين سهما ، جمع كل سهم مائة سهم ، فكان ل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وللمسلمين النصف من ذلك ، وعزل النصف الباقي لمن نزل به من الوفود والأمور ونوائب الناس ) هذا لفظ أبي داود ، وفي لفظ : عزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية عشر سهما ، وهو الشطر لنوائبه ، وما ينزل به من أمر المسلمين ، وكان ذلك الوطيح والكتيبة ، والسلالم وتوابعها . وفي لفظ له أيضا : ( عزل نصفها لنوائبه وما نزل به : الوطيحة والكتيبة ، وما أحيز معهما ، وعزل النصف الآخر ، فقسمه بين المسلمين : الشق والنطاة ، وما أحيز معهما ، وكان سهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما أحيز معهما ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية