الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل

فإذا كانت مكة قد فتحت عنوة ، فهل يضرب الخراج على مزارعها كسائر أرض العنوة ، وهل يجوز لكم أن تفعلوا ذلك أم لا ؟ قيل في هذه المسألة قولان لأصحاب العنوة :

أحدهما : المنصوص المنصور الذي لا يجوز القول بغيره ، أنه لا خراج على مزارعها وإن فتحت عنوة ، فإنها أجل وأعظم من أن يضرب عليها الخراج ، لا سيما والخراج هو جزية الأرض ، وهو على الأرض كالجزية على الرءوس ، وحرم الرب أجل قدرا وأكبر من أن تضرب عليه جزية ، ومكة بفتحها عادت إلى ما [ ص: 386 ] وضعها الله عليه من كونها حرما آمنا يشترك فيه أهل الإسلام ، إذ هو موضع مناسكهم ومتعبدهم وقبلة أهل الأرض .

والثاني - وهو قول بعض أصحاب أحمد - أن على مزارعها الخراج ، كما هو على مزارع غيرها من أرض العنوة ، وهذا فاسد مخالف لنص أحمد رحمه الله ومذهبه ، ولفعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه الراشدين من بعده رضي الله عنهم ، فلا التفات إليه ، والله أعلم .

وقد بنى بعض الأصحاب تحريم بيع رباع مكة على كونها فتحت عنوة ، وهذا بناء غير صحيح ، فإن مساكن أرض العنوة تباع قولا واحدا ، فظهر بطلان هذا البناء والله أعلم .

وفيها : تعيين قتل الساب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأن قتله حد لا بد من استيفائه ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يؤمن مقيس بن صبابة ، وابن خطل ، والجاريتين اللتين كانتا تغنيان بهجائه ، مع أن نساء أهل الحرب لا يقتلن كما لا تقتل الذرية ، وقد أمر بقتل هاتين الجاريتين ( وأهدر دم أم ولد الأعمى لما قتلها سيدها لأجل سبها النبي - صلى الله عليه وسلم - ) وقتل كعب بن الأشرف اليهودي ، وقال : ( من لكعب فإنه قد آذى الله ورسوله " ) وكان يسبه ، وهذا إجماع من الخلفاء الراشدين ، ولا يعلم لهم في الصحابة مخالف ، فإن الصديق - رضي الله عنه - قال لأبي برزة الأسلمي وقد هم بقتل من سبه : ( لم يكن هذا لأحد غير رسول الله ) - صلى الله عليه وسلم - ، ومر عمر - رضي الله عنه - براهب فقيل له : هذا يسب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . فقال : ( لو سمعته لقتلته ، إنا لم نعطهم الذمة على أن يسبوا نبينا - صلى الله عليه وسلم - ) .

[ ص: 387 ] ولا ريب أن المحاربة بسب نبينا أعظم أذية ونكاية لنا من المحاربة باليد ، ومنع دينار جزية في السنة ، فكيف ينقض عهده ويقتل بذلك دون السب ، وأي نسبة لمفسدة منعه دينارا في السنة إلى مفسدة منع مجاهرته بسب نبينا أقبح سب على رءوس الأشهاد ، بل لا نسبة لمفسدة محاربته باليد إلى مفسدة محاربته بالسب ، فأولى ما انتقض به عهده وأمانه سب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولا ينتقض عهده بشيء أعظم منه إلا سبه الخالق سبحانه ، فهذا محض القياس ، ومقتضى النصوص ، وإجماع الخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم - وعلى هذه المسألة أكثر من أربعين دليلا .

فإن قيل : فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقتل عبد الله بن أبي ، وقد قال : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، ولم يقتل ذا الخويصرة التميمي ، وقد قال له : اعدل فإنك لم تعدل ، ولم يقتل من قال له : يقولون إنك تنهى عن الغي ، وتستخلي به ، ولم يقتل القائل له : إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله ، ولم يقتل من قال له لما حكم للزبير بتقديمه في السقي : أن كان ابن عمتك ، وغير هؤلاء ممن كان يبلغه عنهم أذى له وتنقص .

قيل : الحق كان له فله أن يستوفيه ، وله أن يسقطه ، وليس لمن بعده أن يسقط حقه ، كما أن الرب تعالى له أن يستوفي حقه ، وله أن يسقط ، وليس لأحد أن يسقط حقه تعالى بعد وجوبه ، كيف وقد كان في ترك قتل من ذكرتم وغيرهم مصالح عظيمة في حياته ، زالت بعد موته ، من تأليف الناس ، وعدم تنفيرهم عنه ، فإنه لو بلغهم أنه يقتل أصحابه لنفروا ، وقد أشار إلى هذا بعينه ، وقال لعمر لما أشار عليه بقتل عبد الله بن أبي : ( لا يبلغ الناس أن محمدا يقتل أصحابه ) .

[ ص: 388 ] ولا ريب أن مصلحة هذا التأليف ، وجمع القلوب عليه ، كانت أعظم عنده وأحب إليه من المصلحة الحاصلة بقتل من سبه وآذاه ، ولهذا لما ظهرت مصلحة القتل ، وترجحت جدا قتل الساب كما فعل بكعب بن الأشرف ، فإنه جاهر بالعداوة والسب ، فكان قتله أرجح من إبقائه ، وكذلك قتل ابن خطل ، ومقيس والجاريتين وأم ولد الأعمى ، فقتل للمصلحة الراجحة وكف للمصلحة الراجحة ، فإذا صار الأمر إلى نوابه وخلفائه لم يكن لهم أن يسقطوا حقه .

التالي السابق


الخدمات العلمية