الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              وأما ما يرويه طوائف من العامة : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه " رأى رجلا ينقر في صلاته فنهاه عن ذلك ، فقال : لو نقر الخطاب من هذه نقرة لم يدخل النار ، فسكت عنه عمر " ، فهذا لا أصل له ولم يذكره أحد من أهل العلم فيما بلغني ، لا في الصحيح ولا في الضعيف ، والكذب ظاهر عليه فإن المنافقين قد نقروا أكثر من ذلك وهم في الدرك الأسفل من النار .

              وأيضا : فعن أبي عبد الله الأشعري الشامي قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصحابه ، ثم جلس في طائفة منهم ، فدخل رجل فقام يصلي ، فجعل يركع وينقر في سجوده ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إليه ، فقال : ترون هذا ؟ لو مات مات على غير ملة محمد ، ينقر صلاته كما ينقر الغراب الرمة ، إنما مثل الذي يصلي ولا يتم ركوعه وينقر في سجوده ، كالجائع لا يأكل إلا تمرة أو تمرتين لا تغنيان عنه شيئا ، فأسبغوا الوضوء ، ويل للأعقاب من النار ، وأتموا الركوع والسجود ، قال أبو صالح : فقلت لأبي عبد الله الأشعري : من حدثك بهذا الحديث ؟ قال : أمراء الأجناد : خالد بن الوليد ، وعمرو بن العاص ، وشرحبيل بن حسنة ، ويزيد بن أبي سفيان ، كل هؤلاء يقولون : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رواه أبو بكر بن خزيمة في صحيحه بكماله ، وروى ابن ماجه بعضه .

              [ ص: 61 ] وأيضا : ففي صحيح البخاري [ عن أبي وائل عن زيد بن وهب ] : " أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه رأى رجلا لا يتم ركوعه ولا سجوده ، فلما قضى صلاته دعاه وقال له حذيفة : ما صليت ، ولو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمدا صلى الله عليه وسلم . ولفظ أبي وائل : " ما صليت " ، وأحسبه قال : " لو مت مت على غير سنة محمد صلى الله عليه وسلم " .

              وهذا الذي لم يتم صلاته إنما ترك الطمأنينة ، أو ترك الاعتدال أو ترك [ كليهما ] فإنه لا بد أن يكون قد ترك بعض ذلك ، إذ نقر الغراب والفصل بين السجدتين بحد السيف ، والهبوط من الركوع إلى السجود ، [ لا يمكن ] أن ينقص منه مع الإتيان بما قد يقال : إنه ركوع أو سجود ، وهذا الرجل كان يأتي بما قد يقال له ركوع وسجود ، لكنه لم يتمه ، ومع هذا قال له حذيفة : " ما صليت " ، فنفى عنه الصلاة ، ثم قال : " لو مت مت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمدا صلى الله عليه وسلم " و " على غير السنة " ، وكلاهما المراد به هنا : الدين والشريعة ، ليس المراد به فعل المستحبات ، فإن هذا لا يوجب هذا الذم والتهديد ، فلا يكاد أحد يموت على كل ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم من المستحبات ؛ ولأن لفظ : " الفطرة ، والسنة " في كلامهم هو : الدين والشريعة ، وإن كان بعض الناس اصطلحوا على أن لفظ "السنة " يراد [ ص: 62 ] به ما ليس بفرض ، إذ قد يراد بها ذلك كما في قوله صلى الله عليه وسلم : إن الله فرض عليكم صيام رمضان ، وسننت لكم قيامه ، فهي تتناول ما سنه من الواجبات أعظم مما سنه من التطوعات ، كما في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : " إن الله شرع لنبيكم صلى الله عليه وسلم سنن الهدى ، وإن هذه الصلوات في جماعة من سنن الهدى ، وإنكم لو صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم ، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق " ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ .

              ولأن الله سبحانه وتعالى أمر في كتابه بإقامة الصلاة ، وذم المصلين الساهين عنها المضيعين لها ، فقال تعالى في غير موضع : ( وأقيموا الصلاة ) ، وإقامتها تتضمن إتمامها بحسب الإمكان ، كما سيأتي في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال : " أقيموا الركوع والسجود فإني أراكم من بعد ظهري " ، وفي رواية : " أتموا الركوع والسجود " ، وسيأتي تقرير دلالة ذلك .

              والدليل على ذلك من القرآن أنه سبحانه وتعالى قال : ( وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ) [ النساء : 101 ] ، فأباح الله القصر من عددها والقصر من [ ص: 63 ] صفتها ، ولهذا علقه بشرطين : السفر والخوف ، فالسفر : يبيح قصر العدد فقط ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة ، ولهذا كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المتواترة عنه ، التي اتفقت الأمة على نقلها عنه " أنه كان يصلي الرباعية في السفر ركعتين " ولم يصلها في السفر أربعا قط ، ولا أبو بكر ولا عمر رضي الله عنهما ، لا في الحج ولا في العمرة ولا في الجهاد .

              والخوف يبيح قصر صفتها كما قال الله تعالى في تمام الكلام : ( وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ) [ النساء : 102 ] ، فذكر صلاة الخوف ، وهي صلاة ذات الرقاع ، إذ كان العدو في جهة القبلة ، وكان فيها : " أنهم كانوا يصلون خلفه ، فإذا قام إلى الثانية فارقوه وأتموا لأنفسهم الركعة الثانية ، ثم ذهبوا إلى مصاف أصحابهم " كما قال : ( فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ) فجعل السجود لهم خاصة ، فعلم أنهم يفعلونه منفردين ثم قال : ( ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك ) فعلم أنهم يفعلونه [ معه مأمومين ] .

              وفي هذه الصلاة تفريق المأمومين ، ومفارقة الأولين للإمام ، وقيام الآخرين قبل سلام الإمام ، ويتمون لأنفسهم ركعة .

              ثم قال تعالى : ( فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة ) [ النساء : 103 ] ، فأمرهم بعد الأمن بإقامة [ ص: 64 ] الصلاة ، وذلك يتضمن الإتمام وترك القصر منها الذي أباحه الخوف والسفر ، فعلم أن الأمر بالإقامة يتضمن الأمر بإتمامها بحسب الإمكان .

              وأما قوله في صلاة الخوف : ( فأقمت لهم الصلاة ) ، فتلك إقامة وإتمام في حال الخوف ، كما أن الركعتين في السفر إقامة وإتمام ، كما ثبت في الصحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : " صلاة السفر ركعتان ، وصلاة الجمعة ركعتان ، وصلاة الفطر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم " ، وهذا يبين ما رواه مسلم وأهل السنن عن يعلى بن أمية قال : قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : " إقصار الناس الصلاة اليوم ، وإنما قال الله عز وجل : ( إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ) وقد ذهب ذلك اليوم ؟ فقال : عجبت مما عجبت منه ، فذكرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته ، فإن المتعجب ظن أن القصر مطلقا مشروط بعدم الأمن ، فبينت السنة أن القصر نوعان ، كل نوع له شرط .

              وثبتت السنة أن الصلاة مشروعة في السفر تامة ؛ لأنه بذلك أمر الناس ، ليست مقصورة في الأجر والثواب ، وإن كانت مقصورة في الصفة والعمل ؛ إذ المصلي يؤمر بالإطالة تارة ويؤمر بالاقتصار تارة .

              وأيضا فإن الله تعالى قال : ( فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا ) [ النساء : 103 ]

              [ ص: 65 ] والموقوت قد فسره السلف بالمفروض وفسروه بما له وقت ، والمفروض هو المقدر المحدد ؛ فإن التوقيت والتقدير والتحديد والفرض ألفاظ متقاربة ، وذلك يوجب أن الصلاة مقدرة محددة مفروضة موقوتة ، وذلك في زمانها وأفعالها ، وكما أن زمانها محدود ، فأفعالها أولى أن تكون محدودة موقوتة ، وهو يتناول تقدير عددها بأن جعله خمسا ، وجعل بعضها أربعا في الحضر واثنتين في السفر ، وبعضها ثلاثا ، وبعضها اثنتين في الحضر والسفر ، وتقدير عملها أيضا ؛ ولهذا يجوز عند العذر الجمع المتضمن لنوع من التقديم والتأخير في الزمان ، كما يجوز أيضا القصر من عددها ومن صفتها بحسب ما جاءت به الشريعة ، وذلك أيضا مقدر عند العذر كما هو مقدر عند غير العذر ؛ ولهذا فليس للجامع بين الصلاتين أن يؤخر صلاة النهار إلى الليل أو صلاة الليل إلى النهار ، وصلاتي النهار : الظهر والعصر ، وصلاتي الليل : المغرب والعشاء ، وكذلك أصحاب الأعذار الذين ينقصون من عددها وصفتها ، وهو موقوت محدود ، ولا بد أن تكون الأفعال محدودة الابتداء والانتهاء ، فالقيام محدود بالانتصاب بحيث لو خرج عن حد المنتصب إلى حد المنحني الراكع باختياره ، لم يكن قد أتى بحد القيام .

              ومن المعلوم أن ذكر القيام - الذي هو القراءة - أفضل من ذكر الركوع والسجود ، ولكن نفس عمل الركوع والسجود أفضل من عمل القيام ؛ ولهذا كان عبادة بنفسه ، ولم يصح في شرعنا إلا لله بوجه من الوجوه ، وغير ذلك من الأدلة المذكورة في غير هذا الموضع .

              وإذا كان كذلك فمن المعلوم أن هذه الأفعال مقدرة محدودة [ ص: 66 ] بقدر التمكن منها ، فالساجد عليه أن يصل إلى الأرض ، وهو غاية التمكن ليس له غاية دون ذلك إلا لعذر ، وهو من حين انحنائه أخذ في السجود سواء سجد من قيام أو من قعود ، فينبغي أن يكون ابتداء السجود مقدرا بذلك بحيث يسجد من قيام أو قعود ، لا يكون سجوده من انحناء ، فإن ذلك يمنع كونه مقدرا محدودا بحسب الإمكان ، ومتى وجب ذلك وجب الاعتدال في الركوع وبين السجدتين .

              وأيضا : ففي ذلك إتمام الركوع والسجود

              التالي السابق


              الخدمات العلمية