الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              وأما النكاح : فقال هؤلاء كابن حامد والقاضي وأصحابه ، مثل أبي الخطاب وعامة المتأخرين : إنه لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح والتزويج ، كما قاله الشافعي بناء على أنه لا ينعقد بالكناية ؛ لأن الكناية تفتقر إلى نية ، والشهادة شرط في صحة النكاح ، والشهادة على النية غير ممكنة ، ومنعوا من انعقاد النكاح بلفظ الهبة أو العطية أو غيرهما من ألفاظ التمليك .

              وقال أكثر هؤلاء - كابن حامد والقاضي والمتأخرين - إنه لا ينعقد إلا بلفظ العربية لمن يحسنها ، ومن لم يقدر على تعلمها انعقد بمعناها الخاص بكل لسان ، وإن قدر على تعلمها ففيه وجهان ، بناء على أنه مختص بهذين اللفظين . وأن فيه شوب التعبد .

              وهذا - مع أنه ليس منصوصا عن أحمد - فهو مخالف لأصوله ، ولم ينص أحمد على ذلك ، ولا نقلوا عنه نصا في ذلك ، وإنما نقلوا قوله في رواية أبي [الحرث ] : إذا وهبت نفسها لرجل فليس بنكاح ، فإن الله تعالى قال : ( خالصة لك من دون المؤمنين ) [الأحزاب : 50] ، وهذا إنما هو نص على منع ما كان من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وهو النكاح بغير مهر ، بل قد نص أحمد في المشهور عنه على أن النكاح ينعقد بقوله لأمته : " أعتقتك وجعلت عتقك صداقك " وبقوله : " جعلت عتقك صداقك ، أو صداقك عتقك " ذكر ذلك في غير موضع من جواباته .

              فاختلف أصحابه ، فأما أبو عبد الله بن حامد : فطرد قياسه ، وقال : لا بد مع ذلك من أن يقول : " تزوجتها أو نكحتها " ؛ لأن [ ص: 158 ] النكاح لا ينعقد قط بالعربية إلا بهاتين الصيغتين .

              وأما القاضي أبو يعلى وغيره : فجعلوا هذه الصورة مستثناة من القياس الذي وافقوا عليه ابن حامد ، وأن ذلك من صور الاستحسان .

              وذكر ابن عقيل قولا في المذهب : أنه ينعقد بغير لفظ الإنكاح والتزويج ؛ لنص أحمد بهذا ، وهذا أشبه بنصوص أحمد وأصوله .

              ومذهب مالك في ذلك شبيه بمذهبه ، فإن أصحاب مالك اختلفوا : هل ينعقد بغير لفظ الإنكاح والتزويج ؟ على قولين ، والمنصوص عنه إنما هو منع ما اختص به النبي - صلى الله عليه وسلم - من هبة البضع بغير مهر ، قال ابن القاسم : وإن وهب ابنته وهو يريد إنكاحها فلا أحفظه عن مالك ، فهو عندي جائز ، وما ذكره بعض أصحاب مالك وأحمد من أنه لا ينعقد إلا بهذين اللفظين بعيد عن أصولهما ، فإن الحكم مبني على مقدمتين :

              إحداهما : أن ما سوى ذلك كناية ، وأن الكناية مفتقرة إلى النية ، ومذهبهما المشهور : أن دلالة الحال في الكنايات تجعلها صريحة وتقوم مقام إظهار النية ، ولهذا جعلا الكنايات في الطلاق والقذف ونحوهما مع دلالة الحال كالصريح .

              ومعلوم أن دلالات الأحوال في النكاح معروفة : من اجتماع الناس لذلك والتحدث بما اجتمعوا له ، فإذا قال بعد ذلك : " ملكتها لك بألف درهم " علم الحاضرون بالاضطرار أن المراد به الإنكاح ، وقد شاع هذا اللفظ في عرف الناس حتى سموا عقده إملاكا وملاكا ، ولهذا روى الناس قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لخاطب الواهبة الذي التمس فلم [ ص: 159 ] يجد خاتما من حديد رووه تارة : " أنكحتكها بما معك من القرآن " وتارة : "ملكتكها " وإن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يثبت عنه أنه اقتصر على " ملكتكها " بل إما أنه قالهما جميعا ، أو قال أحدهما ، لكن لما كان اللفظان عندهم في مثل هذا الموضع سواء ، رووا الحديث تارة هكذا وتارة هكذا .

              ثم تعيين اللفظ العربي في مثل هذا في غاية البعد عن أصول أحمد ونصوصه ، وعن أصول الأدلة الشرعية ، إذ النكاح يصح من الكافر والمسلم ، وهو وإن كان قربة فإنما هو كالعتق والصدقة ، ومعلوم أن العتق لا يتعين له لفظ لا عربي ولا عجمي ، وكذلك الصدقة والوقف والهبة لا يتعين لها لفظ عربي بالإجماع ، ثم العجمي إذا تعلم العربية في الحال قد لا يفهم المقصود من ذلك اللفظ كما يفهمه من اللغة التي اعتادها .

              نعم لو قيل : تكره العقود بغير العربية لغير حاجة كما يكره سائر أنواع الخطاب بغير العربية لغير حاجة : لكان متوجها كما قد روي عن مالك وأحمد والشافعي ما يدل على كراهة اعتياد المخاطبة بغير العربية لغير حاجة ، وقد ذكرنا هذه المسألة في غير هذا الموضع .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية