الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              وهذه الأقوال الثلاثة في مثل هذه المسألة موجودة بين الفقهاء - وهي ثلاثة أقوال في مذهب أحمد وغيره - هل يكون ربح من اتجر بمال غيره بغير إذنه لرب المال أو للعامل ، أو لهما ؟ على ثلاثة أقوال ، وأحسنها وأقيسها : أن يكون مشتركا بينهما ، كما قضى به عمر ; لأن النماء متولد عن الأصلين .

              وإذا كان أصل المضاربة الذي قد اعتمدوا عليه ، راعوا فيه ما ذكرناه من الشركة ، فأخذ مثل الدراهم يجري مجرى عينها . ولهذا سمى النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون بعده القرض منيحة ، يقال : منيحة ورق . ويقول الناس : أعرني دراهمك ، يجعلون رد مثل الدراهم مثل رد عين العارية ، والمقترض انتفع بها وردها ، وسموا المضاربة قراضا ; لأنها في المقابلات نظير القرض في التبرعات .

              ويقال أيضا : لو كان ما ذكروه من الفرق مؤثرا لكان اقتضاؤه لتجويز المزارعة دون المضاربة أولى من العكس ; لأن النماء إذا حصل مع بقاء الأصلين كان أولى بالصحة من حصوله مع ذهاب أحدهما . وإن قيل : الزرع نماء الأرض دون البدن ، فقد يقال : والربح نماء العامل ، دون الدراهم أو بالعكس ، وكل هذا باطل ، بل الزرع يحصل بمنفعة الأرض المشتملة على التراب والماء والهواء ، ومنفعة بدن العامل والبقر والحديد .

              [ ص: 237 ] ثم لو سلم أن بينها وبين المضاربة فرقا فلا ريب أنها بالمضاربة أشبه منها بالمؤاجرة ; لأن المؤاجرة المقصود فيها هو العمل ، ويشترط أن يكون معلوما ، والأجرة مضمونة في الذمة أو عين معينة . وهنا ليس المقصود إلا النماء ، ولا يشترط معرفة العمل ، والأجرة ليست عينا ولا شيئا في الذمة ، وإنما هي بعض ما يحصل من النماء . ولهذا متى عين فيها شيء معين فسد العقد ، كما تفسد المضاربة إذا شرطا لأحدهما ربحا معينا ، أو أجرة معلومة في الذمة . وهذا بين في الغاية . فإذا كانت بالمضاربة أشبه منها بالمؤاجرة جدا ، والفرق الذي بينها وبين المضاربة ضعيف والذي بينهما وبين المؤاجرة فروق غير مؤثرة في الشرع والعقل ، وكان لا بد من إلحاقها بأحد الأصلين ، فإلحاقها بما هي به أشبه أولى . وهذا أجلى من أن يحتاج فيه إلى إطناب .

              الوجه الثالث : أن نقول : لفظ الإجارة فيه عموم وخصوص . فإنها على ثلاث مراتب :

              أحدها : أن يقال لكل من بذل نفعا بعوض . فيدخل في ذلك المهر ، كما في قوله تعالى : ( فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن ) وسواء كان العمل هنا معلوما أو مجهولا ، وكان الآخر معلوما أو مجهولا لازما أو غير لازم .

              المرتبة الثانية : الإجارة التي هي جعالة ، وهو أن يكون النفع غير معلوم ، لكن العوض مضمونا ، فيكون عقدا جائزا غير لازم ، مثل أن يقول : من رد علي عبدي فله كذا . فقد يرده من كان بعيدا أو قريبا .

              الثالثة : الإجارة الخاصة ، وهي أن يستأجر عينا أو يستأجره على عمل في الذمة ، بحيث تكون المنفعة معلومة . فيكون الأجر معلوما [ ص: 238 ] والإجارة لازمة . وهذه الإجارة التي تشبه البيع في عامة أحكامه . والفقهاء المتأخرون إذا أطلقوا الإجارة ، أو قالوا : " باب الإجارة " ، أرادوا هذا بالمعنى .

              فيقال : المساقاة والمزارعة والمضاربة ونحوهن من المشاركات على نماء يحصل ، من قال : هي إجارة بالمعنى الأعم أو العام ، فقد صدق . ومن قال : هي إجارة بالمعنى الخاص فقد أخطأ . وإذا كانت إجارة بالمعنى العام التي هي الجعالة ، فهنالك إن كان العوض شيئا مضمونا من عين أو دين ، فلا بد أن يكون معلوما ، وأما إن كان العوض مما يحصل من العمل جاز أن يكون جزءا شائعا فيه . كما لو قال الأمير في الغزو : من دلنا على حصن كذا فله منه كذا ، فحصول الجعل هناك مشروط بحصول المال ، مع أنه جعالة محضة لا شركة فيه ، فالشركة أولى وأحرى .

              ويسلك في هذا طريقة أخرى ، فيقال : الذي دل عليه قياس الأصول أن الإجارة الخاصة يشترط فيها أن يكون العوض غررا ، قياسا على الثمن . فأما الإجارة العامة التي لا يشترط فيها العلم بالمنفعة فلا تشبه هذه الإجارة لما تقدم ، فلا يجوز إلحاقها بها ، فتبقى على الأصل المبيح .

              فتحرير المسألة : أن المعتقد لكونها إجارة يستفسر عن مراده بالإجارة . فإن أراد الخاصة : لم يصح ، وإن أراد العامة : فأين الدليل على تحريمها إلا بعوض معلوم ؟ فإن ذكر قياسا بين له الفرق الذي لا يخفى على غير فقيه ، فضلا عن الفقيه ، ولن يجد إلى أمر يشمل مثل هذه الإجارة سبيلا . فإذا انتفت أدلة التحريم ثبت الحل .

              ويسلك في هذا طريقة أخرى ، وهو قياس العكس . وهو أن [ ص: 239 ] يثبت في الفرع نقيض حكم الأصل ; لانتفاء العلة المقتضية لحكم الأصل . فيقال : المعنى الموجب لكون الأجرة يجب أن تكون معلومة منتف في باب المزارعة ونحوها ; لأن المقتضي لذلك أن المجهول غرر . فيكون في معنى بيع الغرر المقتضي أكل المال بالباطل ، أو ما يذكر من هذا الجنس . وهذه المعاني منتفية في الفرع ، فإذا لم يكن للتحريم موجب إلا كذا - وهو منتف - فلا تحريم .

              وأما الأحاديث - حديث رافع بن خديج وغيره - : فقد جاءت مفسرة مبينة لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه لم يكن نهيا عما فعل هو والصحابة في عهده وبعده ، بل الذي رخص فيه غير الذي نهى عنه . فعن رافع بن خديج قال : " كنا أكثر أهل المدينة مزدرعا ، كنا نكري الأرض بالناحية منها تسمى لسيد الأرض . قال : [فمما] يصاب ذلك وتسلم الأرض ، [فمما] تصاب الأرض ويسلم ذلك ؟ فنهينا ، فأما الذهب والورق فلم يكن يومئذ " . رواه البخاري . وفي رواية له قال : " كنا أكثر أهل المدينة حقلا . وكان أحدنا يكري أرضه فيقول : هذه القطعة لي ، وهذه لك . فربما أخرجت ذه ولم تخرج ذه ، فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - " وفي رواية : " فربما أخرجت هذه كذا ولم تخرج ذه ، فنهينا عن ذلك ، ولم ننه عن الورق " وفي صحيح مسلم عن رافع قال : " كنا أكثر أهل الأمصار حقلا . قال : كنا نكري الأرض على أن لنا هذه ولهم هذه . فربما أخرجت هذه ولم تخرج هذه ، فنهانا عن ذلك ، وأما الورق فلم ينهنا " . وفي مسلم أيضا عن حنظلة بن قيس [ ص: 240 ] قال : سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والورق ؟ فقال : " لا بأس به ، إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما على الماذيانات وأقبال الجداول ، وأشياء من الزرع ، فيهلك هذا ، ويسلم هذا ، ويهلك هذا ، فلم يكن للناس كراء إلا هذا ، فلذلك زجر الناس عنه ، فأما شيء معلوم مضمون فلا بأس به " .

              فهذا رافع بن خديج - الذي عليه مدار الحديث - يذكر أنه لم يكن لهم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كراء إلا بزرع مكان معين من الحقل . وهذا النوع حرام بلا ريب عند الفقهاء قاطبة ، وحرموا نظيره في المضاربة . فلو اشترط ربح ثوب بعينه لم يجز . وهذا الغرر في المشاركات نظير الغرر في المعاوضات .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية