الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ درس ] ( فصل ) ذكر فيه حكم بيع العينة ومسائله المتعلقة به ، ووجه مناسبته لما قبله التحيل على دفع قليل في كثير والعينة بكسر العين المهملة فياء تحتية فنون ، وأهل العينة قوم نصبوا أنفسهم لطلب شراء السلع منهم وليست عندهم فيذهبون إلى التجار فيشترونها منهم ليبيعوها لمن طلبها منهم فهي بيع من طلبت منه سلعة قبل ملكه إياها لطالبها بعد شرائها ; سميت بذلك لاستعانة البائع بالمشتري على تحصيل مقصده من دفع قليل ليأخذ عنه كثيرا ، وهي ثلاثة أقسام : جائز ومكروه وممنوع وبدأ بالأول بقوله ( جاز لمطلوب منه سلعة ) وليست عنده ( أن يشتريها ) من مالكها ( ليبيعها ) لطالبها منه ( بثمن ) وفي نسخة بنماء ، وهي أحسن ; لأنه المقصود في هذا الفصل وعلى كل فهو متعلق ببيعها هذا إن باعها للطالب بنقد كله ، أو بمؤجل كله بل ( ولو بمؤجل بعضه ) وعجل الطالب بعضه للمطلوب منه ورد بلو قول العتبية بكراهة ذلك ; لأنه كأنه قال له خذها بع منها لحاجتك ، والباقي لك ببقية الثمن للأجل ، والغالب أن ما بقي بعد بيع بعضها لحاجته لا يفي بما اشتريت به فليتأمل . وأشار للقسم الثاني [ ص: 89 ] بقوله ( وكره ) لمن قيل له سلفني ثمانين وأرد ذلك عنها مائة أن يقول ( خذ ) مني ( بمائة ما ) أي سلعة ( بثمانين ) قيمة ليكون حلالا وما سألتنيه حرام ( أو اشترها ) أي يكره أن يقول شخص لبعض أهل العينة إذا مرت عليك السلعة الفلانية فاشترها ( ويومئ لتربيحه ) اعترض بأن الذي في توضيحه ، وأنا أربحك ولا يلزم من الكراهة مع التصريح الكراهة مع الإيماء وأيضا فإن كلامه هنا يوهم حرمة التصريح ، وأجيب بأن مراده بالإيماء ذكر الربح من غير تسمية قدره فسماه إيماء ; لأنه لم يذكر قدر الربح ، فإن صرح بقدره حرم ، وإن ، أومأ من غير تصريح بلفظه ، نحو ولا يكون إلا خيرا جاز ( ولم يفسخ ) أتى به مع علمه من الكراهة لدفع توهم أن المراد بالكراهة التحريم وللتصريح بالرد على من قال بالفسخ وأشار للقسم الثالث مخرجا له من الجواز بقوله ( بخلاف ) قول الآمر ( اشترها بعشرة نقدا و ) أنا ( آخذها ) منك ( باثني عشر لأجل ) كشهر فلا يجوز لما فيه من سلف جر نفعا ، ثم تارة يقول الآمر لي وتارة لا يقول لي وإليهما أشار بقوله ( ولزمت ) السلعة ( الآمر ) بالعشرة ( إن قال ) في الفرض المذكور اشترها ( لي ) ويفسخ البيع باثني عشر لأجل وهل للمأمور جعل مثله ، أو الأقل منه ومن الربح خلاف ( وفي الفسخ ) للبيع الثاني ، وهو أخذها باثني عشر ( إن لم يقل لي ) فيرد عينها ( إلا أن تفوت ) بيد الآمر ( فالقيمة ) للمأمور حالة يوم قبضها الآمر ( أو إمضائها ) [ ص: 90 ] أو بمعنى الواو كما في بعض النسخ أي وفي الفسخ إن لم يقل لي ، وإمضاء العقدة الثانية بمجرد العقد ( ولزومه ) أي الآمر ( الاثنا عشر ) للأجل ; لأن ضمانها من المأمور ، ولو شاء الآمر عدم الشراء كان له ذلك ; لأنها لم تلزمه فقوله ، أو إمضائها أي إن أخذها الآمر وليس للمأمور منعها منه لكونه كوكيل الآمر ( قولان ) والمعتمد الثاني ولا جعل للمأمور على القولين ( وبخلاف ) قول الآمر للمأمور ( اشترها لي بعشرة نقدا و ) أنا ( آخذها ) منك ( باثني عشر نقدا ) فيمنع ( إن نقد المأمور ) العشرة ( بشرط ) عليه من الآمر بأن قال الآمر اشترها لي بعشرة وانقدها عني ، وأنا أشتريها منك باثني عشر نقدا ; لأنه حينئذ جعل له الدرهمين في نظير سلفه وتوليه الشراء فهو سلف وإجارة بشرط ، وهو يفيد أنه إذا حذف الشرط صح كالبيع والسلف ، وإن شرط النقد كالنقد بشرط ولزمت السلعة الآمر في هذه أيضا بالثمن الأول ، وهو العشرة نقدا ، ويفسخ الثاني إن وقع ( وله ) أي للمأمور على الآمر ( الأقل من جعل مثله ، أو الدرهمين فيهما ) أي في هذه المسألة وفي أول قسمي التي قبلها ، وهو قوله اشترها لي بعشرة نقدا وآخذها باثني عشر لأجل ، وأما في قسمها الثاني ، وهو إن لم يقل لي فلا جعل له كما تقدم ( والأظهر والأصح ) أنه ( لا جعل له ) فيهما لئلا يلزم تتميم الفاسد ، وهو ضعيف والراجح ما قدمه . .

التالي السابق


( فصل ذكر فيه حكم بيع العينة ) ( قوله ووجه مناسبته ) أي بيع العينة وقوله لما قبله أي ، وهو بيوع الآجال وقوله التحيل أي في كل منهما ( قوله فياء تحتية ) أي منقلبة عن واو ; لأن أصلها العون ( قوله لاستعانة البائع بالمشتري إلخ ) أراد بالبائع المطلوب منه السلعة وبالمشتري الطالب لها وحينئذ فتسميته بائعا باعتبار المآل ; لأنه حين طلبت منه السلعة لم يكن بائعا بل مطلوب منه فقط والأحسن أن يقال : إنما سميت عينة لإعانة أهلها للمضطر على تحصيل مطلوبه على وجه التحيل بدفع قليل في كثير ( قوله ; لأنه المقصود في هذا الفصل ) أي وعلى نسخة بثمن يقال : لا ثمرة لذكر ذلك إلا التوصل للمبالغة ، وإلا فمن المعلوم أن كل من باع لا يبيع إلا بثمن ( قوله فهو متعلق ببيعها ) أي لا بقوله يشتريها ; لأن شراء المطلوب منه لا خلاف في جوازه سواء عجل كل الثمن ، أو أجل الكل ، أو عجل البعض وأجل البعض وحينئذ فلا يناسبه التعبير بلو ، والخلاف إنما هو في بيع المطلوب منه للطالب بثمن مؤجل بعضه وبعضه معجل ، ثم إن قول المصنف جاز لمطلوب منه سلعة أي والحال أنه من أهل العينة أي الذين يتحيلون على دفع قليل في كثير ; لأنه محل الخلاف المشار إليه بلو وموضوع الصور الآتية بعد .

( قوله ; لأنه كأنه إلخ ) أي ; لأن المطلوب منه كأنه قال للطالب حين باعها له : خذها إلخ ولا يتأتى هذا إلا إذا كان الطالب من أهل البياعات ، وكانت السلعة يمكن بيع بعضها ( قوله منها لحاجتك ) أي وهو ما يدفعه معجلا للمطلوب منه ( قوله لا يفي إلخ ) الأولى لا يفي ببقية الثمن الذي اشتريت به أي والشراء بغلو والبيع برخص مكروه ( قوله فليتأمل ) أي في رد المصنف على العتبية بلو فإنه [ ص: 89 ] غير صحيح فإن كلام المصنف مسألة وكلام العتبية مسألة أخرى ; لأن كلام العتبية فيمن كان من أهل العينة يشتري السلعة من التجار ويبقيها عنده حتى يأتيه من يشتريها منه بثمن بعضه مؤجل وبعضه معجل فظاهر المدونة والأمهات جواز ذلك لأهل العينة وظاهر العتبية الكراهة ومحل الخلاف إذا دخلا أي البائع والمشتري على أن المشتري لاحتياجه يبيع من تلك السلعة بقدر ما ينقده للبائع ويبقي بقيتها عنده للأجل في مقابلة ما بقي من الثمن ، وإلا فلا كراهة وكلام المصنف فيمن طلبت منه سلعة فيشتريها من مالكها ، ثم يبيعها لمن طلبها منه فيجوز له أن يبيعها له بثمن كله معجل ، أو كله مؤجل ، أو بعضه معجل وبعضه مؤجل ، فإذا علمت هذا تعلم أن على المصنف الدرك من وجهين : إتيانه بالمبالغة في مسألة المطلوب منه سلعة وليست عنده وليست هذه محلا لها الثاني أنه على تقدير أنه لا فرق بين الشراء من المطلوب منه سلعة وليست عنده والشراء ممن هي عنده فمحل المبالغة مقيد بما إذا اشترى ليبيع للحاجة ، وقد أخل بالقيد انظر بن .

( قوله وكره خذ بمائة إلخ ) ظاهر المصنف أن الكراهة إذا كان الفاعل لذلك من أهل العينة كما يقتضيه ذكره هنا ، ولكن ظاهر النقل الإطلاق كما قالعبق ، وأما إن أعطى رب مال لمريد سلف منه بالربا ثمانين ليشتري بها سلعة على ملك رب المال ثم يبيعها له فهو ممنوع كما نقله ح عن ابن رشد في آخر الفصل ; لأنها لما لم تكن عنده السلعة كان المقصود بشرائها ، ولو على وجه الوكالة صورة إنما هو دفع قليل ليأخذ عنه كثيرا ( قوله ، وأجيب بأن مراده إلخ ) الأولى أن يقال : إنه أراد بالإيماء لتربيحه عدم التصريح بقدر الربح سواء ، أومأ للتربيح ، أو صرح به إجمالا ، وأما ما ذكره الشارح من الجواب فناظر فيه لتطبيق كلام المصنف على ما في التوضيح ( قوله ، فإن صرح بقدره حرم ) أي إذا كان الشراء الثاني لأجل ، وأما إذا كان نقدا ففي الجواز والكراهة قولان كما سيذكره المصنف فلا معارضة بين كلام الشارح هنا وما يأتي للمصنف من أنه إذا قال له : اشترها بعشرة نقدا وأنا آخذها منك باثني عشر نقدا ففي الجواز والكراهة قولان ( قوله جاز ) أي كما هو مفاد التوضيح ، وهو الحق خلافا لظاهر كلام المصنف هنا من الكراهة ( قوله وللتصريح بالرد على من قال إلخ ) في ح إنه أتى به ليرد قول فضل يجب أن يفسخ لحمله الكراهة في المدونة على التحريم لما فيه من التحيل على دفع قليل في كثير ( قوله بخلاف اشترها ) حاصل صور هذه المسألة ، وهي ما إذا أمره أن يشتريها بثمن ويأخذها منه بثمن آخر أن الثمنين إما أن يكونا نقدا ، أو مؤجلين ، أو الأول نقدا ، والثاني لأجل ، أو بالعكس ، وفي كل من الأربعة إما أن يقول : لي أم لا فهذه [ ص: 90 ] ثمانية وفي كل إما أن يكون الثمن الثاني قدر الأول ، أو أقل ، أو أكثر فهذه أربعة وعشرون والمصنف لم يذكر منها إلا ست صور ; لأنه ذكر لفظ بخلاف ثلاث مرات وفي كل منها صورتان ; لأنه في كل منها إما أن يقول لي أو لا ( قوله وآخذها ) إما بالرفع أي وأنا آخذها فهو استئناف ، أو أنه منصوب بأن مضمرة بعد واو المعية في جواب الأمر ( قوله فلا يجوز ) أشار به إلى أن قول المصنف بخلاف إلخ مخرج من قوله جاز إلخ لا من قوله وكره إلخ ( قوله ثم تارة يقول الآمر لي ) أي تارة يقول الآمر اشتراها لي بعشرة نقدا ، وأنا آخذها إلخ ( قوله خلاف إلخ ) ومشى المصنف فيما يأتي على القول الثاني ونقل أيضا عن ابن رشد أنه لا جعل له ( قوله وفي الفسخ إن لم يقل لي إلخ ) حاصله أنه إذا لم يقل لي والفرض أنه أمره بشرائها بعشرة واتفق معه على أن يشتريها منه باثني عشر لأجل ووقع ذلك فقيل يفسخ البيع الثاني ، وهو أخذ الآمر لها باثني عشر لأجل ، ثم إن كانت السلعة قائمة في يد الآمر ردت للمأمور بعينها ، وإن فاتت في يد الآمر بمفوت البيع الفاسد رد قيمتها يوم القبض حالة بالغة ما بلغت زادت على الاثني عشر ، أو نقصت وقيل إن البيع الثاني يمضي مع الآمر باثني عشر للأجل ولا يفسخ كانت السلعة قائمة ، أو فائتة ، وإذا علمت ذلك ظهر لك أن الاستثناء في قول المصنف وفي الفسخ إن لم يقل لي إلا أن يفوت فالقيمة فيه نظر من وجهين : أحدهما أن مقتضاه أن المبيع إذا فات لا يفسخ مع أنه يفسخ على هذا القول مطلقا لكن يرد عينه إذا لم يفت وقيمته إذا فات الثاني لزم القيمة هنا حال الفوات وهذا يخالف ما تقدم من أن المختلف في فساده يمضي إذا فات الثمن والجواب عن الأول أن الاستثناء من مقدر أي وترد عينه إلا أن يفوت فالقيمة وإلى هذا الجواب أشار الشارح والجواب عن الثاني أن ما تقدم أكثري لا كلي وإنما لم يمض هنا بالثمن لما فيه من سلف جر نفعا .

( قوله ، أو بمعنى الواو ) أي ; لأن الخلاف إنما هو في الفسخ والإمضاء لا في أحدهما كما يستفاد من أو ( قوله ; لأن ضمانها من المأمور ) أي لو هلك قبل شراء الثاني ( قوله ; لأنها لم تلزمه ) أي لعدم قوله لي ( قوله وليس للمأمور منعها ) هذا مرتبط بما قبل التفريع أعني قوله ، ولو شاء الآمر إلخ ( قوله لكونه كوكيل الآمر ) يقدح في هذا جعله ضامنا لها ، وقد يقال : لا منافاة بين كون ضمانها من المأمور وبين كون الآمر مخيرا في الشراء وعدمه ألا ترى أن ما بيع بالخيار للمشتري ، كذلك فإن ضمانه من بائعه مدة الخيار والمشتري مخير في إمضاء الشراء وعدمه فقد وجد نظير لما هنا ( قوله والمعتمد الثاني ) قال ح وكان على المصنف أن يقتصر على القول الثاني ; لأنه قول ابن القاسم وروايته عن مالك والقول الأول لابن حبيب ا هـ . بن ( قوله على القولين ) أي القول بفسخ البيع الثاني وإمضائه إن لم يقل لي ، ثم إنه لا حاجة لقوله ولا جعل له على القولين ; لأنه إذا فسخ البيع الثاني على القول به فظاهر عدم الجعل ، وإذا مضى على القول الثاني فقد أخذ الدرهمين ( قوله ، وهو يفيد إلخ ) الضمير للتعليل المذكور ووجه الإفادة أن هذا شأن الإجارة والسلف ; لأنه لا فرق بين الإجارة والسلف والبيع والسلف في حصول الصحة إذا أسقط الشرط ( قوله ، وإن شرط النقد ) أي من الآمر على المأمور أي والحال أنه لم يحصل منه نقد وقوله كالنقد أي كالنقد بالفعل من المأمور بشرط الآمر عليه ( قوله ولزمت السلعة الآمر في هذه أيضا ) أي مراعاة لقوله لي المفيد أنه وكيل عنه ( قوله ويفسخ الثاني إن وقع ) أي مراعاة لعلة اجتماع السلف والإجارة بشرط ( قوله فلا جعل له كما تقدم ) قد سبق ما فيه من أنه لا حاجة لذلك ; لأنه إن [ ص: 91 ] فسخ فظاهر عدم الجواز ، وإن أمضى فقد أخذه .

( قوله والأظهر والأصح أنه لا جعل له ) أي ، وهو قول ابن المسيب واختاره ابن رشد وابن زرقون ولاختيار ابن زرقون أشار المصنف بالأصح وبهذا يسقط تعقب المواق على المؤلف بقوله لعل الواو في قوله والأصح أقحمها الناسخ وذلك ; لأن اعتماد المواق على ابن عرفة ، وهو لم يذكر كلام ابن زرقون ، ثم اعلم أن المسألة الثانية ذات أقوال ثلاثة ذكر المصنف منها قولين ، والثالث أن له أجر مثله بخلاف الأولى ففيها قولان له الأقل ، أو أجر مثله وليس فيها الثالث الذي استظهره ابن رشد وحينئذ فلا يصح قول المصنف فيهما بالنسبة للأولى ; لأنه يقتضي أن القولين المذكورين جاريان في المسألة الأولى والثانية كذا اعترضه المواق ورده بن بأن ابن رشد ذكر هذا القول في المسألة الأولى أيضا ونقل ح كلامه فانظره . .




الخدمات العلمية