الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            صفحة جزء
            ومن الأدلة القياسية على طهارة الشعر بالدباغ تبعا للجلد القياس على دن الخمر إذا صارت خلا ، فإنه يطهر تبعا لها ، فإن اعترض معترض بأن ذاك من محل الضرورة ، قلنا : وهذا من محل الحاجة ، وقد نص الفقهاء في قواعدهم على أن الحاجة تنزل منزلة الضرورة .

            ومما يستدل به أيضا من جهة القياس مسألة ما لو ولغ الكلب في إناء فيه ماء قليل ، فإن الماء والإناء ينجسان معا فلو كوثر الماء حتى بلغ قلتين ، فإن الماء يطهر وكذا الإناء تبعا له في أحد الأوجه ، فهذا حكم بالطهارة على سبيل التبعية فيقاس عليه الحكم بطهارة الشعر على سبيل التبعية للجلد .

            ومما يستدل به أيضا من جهة القياس مسألة الدم الباقي على اللحم وعظامه ، فإنه محكوم بطهارته تبعا للحم لعموم البلوى به كما ارتضاه النووي في شرح المهذب ، وقال : قد ذكره أبو إسحاق الثعلبي المفسر من أصحابنا ونقل عن جماعة كثيرة من التابعين أنه لا بأس به ، ودليله المشقة في الاحتراز منه ، وصرح أحمد وأصحابه بأن ما يبقى من الدم في اللحم معفو عنه ، ولو علت حمرة الدم في القدر لعسر الاحتراز منه ، وحكوه عن عائشة ، وعكرمة ، والثوري ، وابن عيينة ، وأبي يوسف ، وأحمد ، وإسحاق ، وغيرهم .

            قلت : مع أن الأصل في الدم النجاسة ، وهي فيه أظهر منها في الشعر لما تقدم من أن أكثر الأئمة على عدم تنجيس الشعر بالموت فيكون الحكم بطهارته تبعا للجلد أولى وأقوى من الحكم بطهارة الدم تبعا للحم .

            استدلال آخر من طريق القياس المسمى عندهم قيام العكس : قالوا : إذا جز الشعر من الحيوان الحي المأكول ، فهو طاهر لقوله تعالى : ( ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين ) امتن به فكان طاهرا والمأخوذ به من المذبوح لا يفي بالحاجة في مثل ذلك ، فكان شاملا لما جز في حال الحياة فلو قطع في الحياة عضو عليه شعر حكم بنجاسة الشعر تبعا للعضو المحكوم بنجاسته لقوله صلى الله عليه وسلم : ما أبين من حي ميت .

            فكما حكم بنجاسة الشعر تبعا للجزء المتصل به المحكوم بنجاسته كذلك قياسه عكسه إذا حكم بطهارة الجلد بالدباغ يحكم بطهارة الشعر المتصل به تبعا ، وشاهد أصل قياس العكس قوله صلى الله عليه وسلم : " وفي بضع أحدكم صدقة " قالوا : يا رسول الله ، أيأتي أحدنا شهوته ، وله فيها [ ص: 25 ] أجر ؟ قال : " أرأيتم لو وضعها في حرام ، أكان عليه وزر ؟ " قالوا : بلى . قال : " فكذلك إذا وضعها في حلال ، كان له أجر " رواه مسلم .

            وطريقة أخرى في الاستدلال ، وهو أن الأحاديث التي احتججنا بها صريحة في المقصود ، والأحاديث التي احتج بها للنجاسة ، وهي أحاديث النهي عن جلود السباع ليست صريحة ، وإنما استدل بها بطريق الاستنباط واللزوم للمعنى الذي ذكروه ، وما كان صريحا ، فهو مقدم على ما كان بطريق اللزوم .

            وقد سلك ابن دقيق العيد في الترجيح مسلكا آخر ، فقال : نهيه عليه السلام عن افتراش جلود السباع مخصوص بالاتفاق ، وقوله عليه السلام : ( أيما إهاب دبغ فقد طهر ) غير مخصوص بالاتفاق ، فيرجح العمل به على معارضه ، هذا كلام ابن دقيق العيد .

            ومسلك آخر في الجواب ، وهو أنا نمنع عن كون النهي عن جلود السباع لأجل شعرها ، بل لمعنى آخر أشار إليه الخطابي ، وهو أنها إنما نهى عنها من أجل أنها مراكب أهل السرف والخيلاء ، وتمام ذلك أن يقال : إنه من صنع الأعاجم ، وقد صحت الأحاديث بالنهي عن التشبه بفعل الأعاجم أي الفرس ، ويؤيد ذلك أمران : أحدهما أن النهي مطلق ، ولو كان لأجل نجاسة الشعر لكان يزول بنتفه ، ولا شك أن الحديث شامل للحالتين ، والثاني أنه لو كان لأجل نجاسة الشعر لم يكن لتخصيص السباع بالذكر فائدة ، فإن الغنم وسائر الحيوانات كانت تساوي السباع في ذلك فلو لم يكن ذلك لمعنى آخر غير النجاسة لم يكن لتخصيص السباع بالذكر فائدة .

            وأمر ثالث ، وهو أن أبا داود روى في سننه من حديث معاوية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تركبوا الخز والنمار " فقران الخز بالنمار في هذا الحديث دليل على أن النهي فيه للسرف والخيلاء لا للنجاسة ، وكذلك ما رواه أحمد ، وابن ماجه من حديث عبد الله بن عمر قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الميثرة ، والقسية ، وحلقة الذهب ، والمفدم قال يزيد : الميثرة جلود السباع ، والقسية ثياب مضلعة من إبريسم ، والمفدم المشبع بالعصفر .

            وروى الطبراني في الكبير عن ثوبان قال : حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم التختم بالذهب ، والقسية ، وثياب المعصفر ، والمفدم ، والنمور . فقران جلد السباع والنمور بهذه الأشياء في هذين الحديثين دليل على أن النهي فيه للسرف والخيلاء لا للنجاسة .

            وروى أبو داود أيضا عن أبي هريرة عن [ ص: 26 ] النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تصحب الملائكة رفقة فيها جلد نمر ، وهذا أيضا يدل على أن النهي للخيلاء لا للنجاسة ; لأن الجلد النجس لا يحرم اقتناؤه إنما يحرم لبسه واستعماله في الأشياء الرطبة ، والحديث دل على ذم اقتنائه مطلقا فعرف أن المعنى فيه الخيلاء كأواني النقدين حرمت للخيلاء فحرم اقتناؤها ، وأمر آخر ، وهو أنه لو كان النهي لنجاسة الشعر لم يكن يمتنع إلا الجلوس على الوجه الذي فيه الشعر خاصة ، ولو قلبه وجلس على الوجه الذي لا شعر فيه لم يمتنع ; لأن ذلك الوجه من الجلد قد طهر بالدباغ قطعا ، ولا شك أن النهي شامل للوجهين معا كما هو ظاهر الأحاديث السابقة .

            وعند ابن أبي شيبة في مسنده من حديث معاوية : قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا تجلسوا على جلود السباع ) .

            وعند الحارث بن أبي أسامة في مسنده عن سمرة بن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : نهى أن تفترش مسوك السباع .

            فهذه إطلاقات شاملة للجلد بوجهيه فدل على أن ذلك لمعنى السرف والخيلاء لا للنجاسة ، وأيضا فلم يذكر الفقهاء أنه يحرم الجلوس على جلد الميتة النجس إنما ذكروا تحريم لبسه ولحاق الافتراش به قد لا يسلم ، والأحاديث صريحة في النهي عن افتراش جلود السباع والجلوس عليها والركوب عليها ، فدل ذلك على أنه لمعنى آخر غير النجاسة .

            فإن قلت : فقد قال سعيد بن منصور في سننه : ثنا عبد الرحمن بن زياد ، عن شعبة عن عبد الملك بن ميسرة ، عن زيد بن وهب قال : أتاهم كتاب عمر بن الخطاب وهم في بعض المغازي : بلغني أنكم في أرض تأكلون طعاما يقال له : الجبن ، فانظروا ما حلاله من حرامه ، وتلبسون الفراء ، فانظروا ذكيه من ميته .

            فالجواب عنه من ثلاثة أوجه : أحدها : أن إسناده ضعيف ، والثاني : أنه معارض بما تقدم عن عمر في الجبن والفراء أيضا ، فقد تقدم أن البيهقي أخرج من طريق أبي وائل عن عمر بن الخطاب أنه قال في الفراء : ذكاته دباغه ، الثالث : أن هذا من عمر ليس قولا بأن الشعر لا يطهر بالدباغ ويطهر به الجلد ، وإنما هو مبني على قوله بأن الدباغ لا يطهر الجلد أصلا ورأسا ، وقد تقدم أنه مذهب له فكان له في المسألة قولان : أحدهما أن الدباغ يطهر الجلد والشعر معا ، والآخر أنه لا يطهر لا الجلد ، ولا الشعر . فكل رواية محمولة على قول من قوليه .

            فهذا ما أدانا إليه النظر والاجتهاد في هذه المسألة فأجبنا به على حسب ما التمس السائل ، وقد سمينا هذا الكتاب ( تحفة الأنجاب بمسألة السنجاب ) وكان إملاؤه يوم الاثنين سابع محرم سنة تسعين وثمانمائة ، والله أعلم .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية