الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            صفحة جزء
            مسألة : في أي سنة كان فرض الجهاد ؟ .

            الجواب : روى أحمد ، والترمذي ، والحاكم ، وغيرهم عن ابن عباس قال : لما أخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر : أخرجوا نبيهم : ( إنا لله وإنا إليه راجعون ) ليهلكن ، فنزلت : ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ) الآية ، قال أبو بكر : فعرفت أنه سيكون قتال ، قال ابن عباس : فهي أول آية نزلت في القتال ، قال ابن الحصار من أئمة المالكية في كتابه " الناسخ والمنسوخ " : استنبط بعضهم من هذا الحديث أنها نزلت في سفر الهجرة .

            وأخرج البيهقي في دلائل النبوة عن مجاهد قال : خرج ناس مؤمنون مهاجرين من مكة إلى المدينة ، فأتبعهم كفار قريش فأذن الله لهم في قتالهم ، فأنزل الله : ( أذن للذين يقاتلون ) الآية فقاتلوهم .

            وأخرج ابن أبي حاتم في تفسيره عن ابن عباس : أن نفرا من قريش ، ومن أشراف كل قبيلة اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة ، فاعترضهم إبليس ، فذكر القصة قال : فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنتي عشرة سنة بمكة ، ثم أذن الله له بالخروج إلى المدينة ، وأمرهم بالهجرة ، وافترض عليهم القتال ، فأنزل الله : ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ) الآيتان ، فكان هاتان الآيتان أول ما نزل في الحرب .

            وأخرج ابن أبي حاتم عن عروة بن الزبير قال : إن أول آية نزلت في الجهاد حين ابتلي المسلمون بمكة ، وسطت بهم [ ص: 288 ] عشائرهم ليفتنوهم عن الإسلام ، وأخرجوهم من ديارهم ، فأنزل الله ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ) الآية ، وذلك حين أذن الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بالخروج ، وأذن لهم بالقتال .

            وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال : إن مشركي أهل مكة كانوا يؤذون المسلمين بمكة ، فاستأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في قتالهم بمكة ، فلما خرج إلى المدينة أنزل الله : ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ) ، وأخرج ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله : ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ) قال : أذن لهم في قتالهم بعد ما عفي عنهم عشر سنين ، هذه الآثار كلها : متضافرة على أن ذلك كان في السنة الأولى من الهجرة ، غير أن هذه الآية مبيحة لا موجبة ، وقد نص الإمام الشافعي - رضي الله عنه - على أن القتال كان قبل الهجرة ممنوعا ، ثم أبيح بعد الهجرة ، ثم وجب بآيات الأمر ، فلعل الإيجاب كان في آخر السنة الأولى ، أو أول السنة الثانية وفيها كان مبدأ الغزوات ، وذكر القاضي عياض أن فرض الجهاد العام كان عام الفتح سنة ثمان في براءة ؛ لقوله تعالى : ( وقاتلوا المشركين كافة ) وهذا لا ينافي ما سبق ؛ لأن فرضيته قبل ذلك كانت مخصوصة ، وهذا الآية فرضت على العموم .

            وقد روى النسائي ، والحاكم عن ابن عباس : أن ناسا أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا نبي الله : " كنا في عز ونحن مشركون ، فلما آمنا صرنا أزلة ، قال : " إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم " فلما حوله الله إلى المدينة أمره بالقتال فكفوا ، فأنزل الله : ( ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم ) الآية ، وهذا أيضا ظاهر في أن فرض القتال كان في سنة الهجرة ، وفي بعض طرق الحديث ، فلما كانت الهجرة ، وأمروا بالقتال كره القوم ذلك ، فأنزل الله الآية ، ثم رأيت ابن سعد في الطبقات ذكر : أن أول لواء عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم لخمسة في رمضان على رأس سبعة أشهر من مهاجره وبعثه في ثلاثين رجلا لغير قريش ، ثم بعث سرية عبيدة بن الحارث إلى بطن رابغ في شوال ، على رأس ثمانية أشهر من مهاجره ، وبعثه في ستين رجلا ، ثم بعث سرية سعد بن أبي وقاص إلى الخرار في ذي القعدة ، على رأس تسعة أشهر من مهاجره ، وبعثه في عشرين رجلا ، فهذا كله يدل على أن فرض الجهاد كان في السنة الأولى من الهجرة ، والله أعلم .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية