الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            صفحة جزء
            مسألة : في قوله تعالى : ( يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين ) ما السمة التي كانت عليهم ؟ وهل كان للنبي صلى الله عليه وسلم عذبة ؟ فإن الشيخ مجد الدين الشيرازي [ ص: 358 ] نقل في شرح البخاري أنه كان له عذبة طويلة نازلة بين كتفيه وتارة على كتفه ، وأنه ما فارق العذبة قط ، وأنه قال : " خالفوا اليهود ولا تصمموا فإن تصميم العمامة من زي أهل الكتاب " وأنه قال : " أعوذ بالله من عمامة صماء " فهل هذه الأحاديث صحيحة ؟ وما على من علم أن العذبة سنة وتركها مستنكفا عنها ؟ وهل إذا اقتدى الشخص برسول الله صلى الله عليه وسلم في العذبة وحصل له الخيلاء يحرم عليه أم لا ؟ وهل يجوز أن يقال : إن الأحاديث كلام الله ؟ .

            الجواب : أما السمة التي كانت عليهم فروى ابن أبي حاتم في تفسيره بأسانيد عن علي ، وابن عباس ، ومجاهد أنها الصوف الأبيض في نواصي خيولهم وأذنابها ، وروي عن أبي هريرة بالعهن الأحمر ، وروي عن مكحول وغيره أنها العمائم ، وروي من طريق وكيع ، عن هشام بن عروة ، عن يحيى بن عباد أن الزبير كان عليه يوم بدر عمامة صفراء معتجرا بها ، فنزلت الملائكة ، عليهم عمائم صفر ، ورواه ابن المنذر من طريق هشام ، عن عباد بن حمزة ، وزاد في آخره : مثل سيما الزبير ، وروى الطبراني في الكبير عن ابن عباس قال : كان سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيض قد أرسلوها إلى ظهورهم ، وفي إسناده عمار بن أبي مالك ضعفه الأزدي ، وروي أيضا عن عروة قال : نزل جبريل عليه السلام يوم بدر على سيما الزبير وهو معتجر بعمامة صفراء ، وهو مرسل صحيح الإسناد .

            وروي أيضا عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في " قوله : ( مسومين ) قال : معلمين " وكانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم سود ، وفي إسناده عبد القدوس بن حبيب وهو متروك ، وروى ابن جرير بإسناد حسن عن أبي أسيد الساعدي وهو بدري ، قال : خرجت الملائكة يوم بدر في عمائم صفر قد طرحوها بين أكتافهم .

            فالذي صح من هذه الروايات في العمائم أنها صفر مرخاة بين الأكتاف ، ورواية البيض والسود ضعيفة .

            والاعتجار لف العمامة على الرأس قاله في الصحاح .

            وأما العذبة فوقفت فيها على عدة أحاديث من لبس النبي صلى الله عليه وسلم وإلباسه وليس فيها طويلة :

            الأول عن عمرو بن حريث قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفها بين كتفيه . رواه مسلم وأبو داود .

            الثاني : عن ابن عمر قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اعتم سدل عمامته بين كتفيه ، قال نافع : وكان ابن عمر يفعل ذلك ، رواه الترمذي في الشمائل .

            الثالث : عن عبد الرحمن بن عوف قال : عممني رسول الله صلى الله عليه وسلم فسدلها بين يدي ومن خلفي ، رواه أبو داود .

            الرابع : عن عائشة قالت : عمم رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف وأرخى له أربع أصابع ، رواه الطبراني في الأوسط عن شيخه مقدام بن داود وهو ضعيف .

            [ ص: 359 ] الخامس : عن ثوبان " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اعتم أرخى عمامته بين يديه ومن خلفه " رواه في الأوسط وفيه الحجاج بن رشدين ضعيف .

            السادس : عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم عمم عبد الرحمن بن عوف فأرسل من خلفه أربع أصابع أو نحوها ثم قال : " هكذا فاعتم فإنه أعرب وأحسن " ، رواه في الأوسط وإسناده حسن .

            السابع : عن أبي عبد السلام قال : قلت لابن عمر : كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتم ؟ قال : " كان يدير كور العمامة على رأسه ويغرزها من ورائه ويرسلها بين كتفيه " ، رواه الطبراني في الكبير وإسناده على شرط الصحيح إلا أبا عبد السلام وهو ثقة .

            الثامن : عن أبي موسى أن جبريل نزل على النبي صلى الله عليه وسلم وعليه عمامة سوداء قد أرخى ذؤابتها من ورائه . رواه في الكبير ، وفيه عبد الله بن تمام وهو ضعيف .

            التاسع : عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عليكم بالعمائم ، فإنها سيما الملائكة وأرخوها خلف ظهوركم " رواه في الكبير ، وفيه علي بن يونس وهو مجهول .

            العاشر : عن أبي أمامة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يولي واليا حتى يعممه ويرخي لها من جانبه الأيمن نحو الأذن ، رواه في الكبير ، وفيه جميع بن ثوب متروك .

            الحادي عشر : عن عبد الله بن بسر قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا إلى خيبر فعممه بعمامة سوداء ، ثم أرسلها من ورائه ، أو قال : على كتفه ، رواه في الكبير وإسناده حسن .

            الثاني عشر : عن عائشة قالت : " عمم رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف بفناء بيتي هذا ، وترك من عمامته مثل ورق العشر ، ثم قال : رأيت أكثر الملائكة معتمين " أخرجه ابن عساكر .

            هذا ما حضرني الآن من الأحاديث فيها ، فقول الشيخ مجد الدين : كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم عذبة صحيح ، وقوله : طويلة لم أره ، لكن يمكن أن يؤخذ من أحاديث إرخائها بين الكتفين ، وقوله : بين كتفيه صحيح كما تقدم ، وقوله : وتارة على كتفه لم أقف عليه من لبسه لكن من إلباسه كما تقدم في تعميمه عبد الرحمن بن عوف وعليا ، وقوله : ما فارق العذبة قط ، لم أقف عليه في حديث بل ذكر صاحب الهدي أنه كان يعتم تارة بعذبة وتارة بلا عذبة .

            وأما حديث : " خالفوا اليهود " إلى آخره ، وحديث : " أعوذ بالله من عمامة صماء " فلا أصل لهما ، ومن علم أنها سنة وتركها استنكافا عنها أثم أو غير مستنكف فلا ، قال [ ص: 360 ] النووي في شرح المهذب : يجوز لبس العمامة بإرسال طرفها وبغير إرساله ، ولا كراهة في واحد منهما ، ولم يصح في النهي عن ترك إرسالها شيء ، وإرسالها إرسالا فاحشا كإرسال الثوب فيحرم للخيلاء ويكره لغير الخيلاء لحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الإسبال في الإزار والقميص والعمامة ، من جر شيئا خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة " رواه أبو داود ، والنسائي بإسناد صحيح ، وأما إذا اقتدى الشخص به صلى الله عليه وسلم في عمل العذبة وحصل له ضمن ذلك خيلاء ، فدواؤه أن يعرض عنه ويعالج نفسه على تركه ، ولا يوجب ذلك ترك العذبة ، فإن لم يزل إلا بتركها فليتركها مدة حتى يزول ; لأن تركها ليس بمكروه ، وإزالة الخيلاء واجبة ، وأما : هل يجوز أن يقال : الأحاديث كلام الله ؟ فنعم بمعنى أنها من عند الله قال تعالى : ( وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى ) وروى أبو داود ، وابن حيان في صحيحه من حديث المقدام بن معدي كرب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ألا إني أوتيت الكتاب وما يعدله ، فرب شبعان على أريكته يحدث بحديثي فيقول : بيننا وبينكم كتاب الله ما كان فيه من حلال استحللناه وما فيه من حرام حرمناه ، ألا وإن ما حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ما حرم الله " .

            وروى أبو داود من حديث العرباض بن سارية نحوه وفيه : " ألا إني أمرت ووعظت ونهيت عن أشياء إنها بمثل القرآن أو أكثر " ، وأصرح من ذلك في المطلوب ما رواه أحمد عن أبي أمامة الباهلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليدخلن الجنة بشفاعة رجل من أمتي مثل الحيين ربيعة ومضر ، فقال رجل : يا رسول الله ، وما ربيعة ومضر ؟ فقال : إنما أقول ما أقول " وإسناده حسن .

            وقال حسان بن عطية : كان جبريل ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل بالقرآن ، أخرجه الدارمي بإسناد صحيح عنه ، وهو شامي ثقة من صغار التابعين ; ولذلك شواهد كثيرة استوعبتها في القطعة التي كتبتها على سنن ابن ماجه وفيما ذكرناه كفاية .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية