الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            صفحة جزء
            مسألة : فيما نقله الإمام الغزالي في الدرة الفاخرة في كشف علوم الآخرة من فتنة الموت : وذلك أن إبليس لعنه الله وكل أعوانه واستعملهم بالميت ، فيأتونه على صفة أبويه على صفة اليهودية فيقولان له : مت يهوديا ، فإن انصرف عنهم جاء أقوام آخرون على صفة النصارى ، حتى يعرض عليه كل عقائد كل ملة ، فمن أراد الله هدايته أرسل إليه جبريل فيطرد الشيطان وجنده ، فيبتسم الميت ويقول : من أنت الذي من الله علي بك في دار غربتي ؟ فيقول : أنا جبريل ، وهؤلاء أعداؤك من الشياطين ، مت على الملة الحنيفية والشريعة المحمدية ، فما شيء أحب إلى الإنسان وأفرح منه بذلك ، وهو معنى قوله تعالى : ( ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ) . وقال رجل : الدرة الفاخرة موضوعة على الغزالي ، وليس لها محل من الإحياء ، وإن جبريل لم ينزل إلى الأرض بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واحتج له بحديث رواه عن أبي هريرة أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال : يا محمد ، ربك يقرئك السلام ويقول : كيف تجدك ؟ قال : أجدني يا أمين الله وجعا ، من هذا معك ؟ قال : ملك الموت ، وهذا آخر عهدي بالدنيا بعدك وآخر عهدك بها ، ولن آسى على شيء هالك من بني آدم بعدك ، ولن أهبط إلى الأرض بعدك لأحد أبدا . فهل الدرة موضوعة على الغزالي أم لا ؟ وهل الحديث المعارض له صحيح أم لا ؟ وهل جبريل ينزل لعيسى ابن مريم عند نزوله من السماء أم لا ؟ وهل يرد كلام الغزالي بالحديث المعارض أم لا ؟

            [ ص: 458 ] الجواب : أما المذكور أولا من فتنة الموت إلى آخره ، فلم أقف عليه في الحديث هكذا ، وإنما ورد ما يقرب منه ، فأخرج أبو نعيم في الحلية من حديث واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " احضروا موتاكم ولقنوهم لا إله إلا الله ، وبشروهم بالجنة ؛ فإن الحليم من الرجال والنساء يتحيرون عند ذلك المصرع ، وإن الشيطان أقرب ما يكون من ابن آدم عند ذلك المصرع " ، وأخرج الحارث بن أبي أسامة في مسنده من مرسل عطاء بن يسار ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " معالجة ملك الموت أشد من ألف ضربة بالسيف ، وما من مؤمن يموت إلا وكل عرق منه يألم على حدة ، وأقرب ما يكون عدو الله منه تلك الساعة " مرسل جيد الإسناد . وأخرج ابن أبي الدنيا في ذكر الموت من طريق آخر مرسلا نحوه ، فهذا ما وقفت عليه من الأحاديث الدالة على حضور الشيطان عند الموت ، وأما حضور جبريل فأخرج الطبراني في الكبير عن ميمونة بنت سعد قالت : قلت : يا رسول الله ، أينام الجنب ؟ قال : " ما أحب أن ينام حتى يتوضأ ؛ إني أخاف أن يتوفى فلا يحضره جبريل " ، دل هذا الحديث بمفهومه على أن جبريل عليه السلام يحضر الموتى ، خصوصا من كان على طهارة ، واستفدنا منه أن طهارة الجنابة كافية في حضوره ، وأنه لا يشترط طهارة الحدث الأصغر ، وأن الجنب إذا توضأ يرجى له الاكتفاء بذلك وحضوره .

            وأما قول من قال : إن الدرة الفاخرة موضوعة على الغزالي ، فليس كما قال ، فقد نسبها إليه الأكابر ، منهم القرطبي في التذكرة ، وينقل منها الصفحة والورقة بحروفها ، ومنهم خاتمة الحفاظ أبو الفضل ابن حجر في تخريج أحاديث الشرح الكبير . نعم الدرة الموجودة الآن مشتملة على ألفاظ ركيكة وأشياء غير مستقيمة الإعراب ، والذي يظهر أن ذلك من تغيير النساخ لكثرة تداول أيدي العوام عليها ، فزادوا فيها ونقصوا وحرفوا وغيروا ، وقد نقل الحافظ ابن حجر في التخريج عنها شيئا ليس موجودا فيها الآن ، فكأنه مما أسقطه النساخ ، وقد أمليت عليها تخريجا في خمسين مجلسا في سنة أربع وسبعين ، حررت فيه ما وقع فيها من الأحاديث والآثار ، وبينت ما له أصل وما لا أصل له .

            وأما حديث الوفاة وقول جبريل : هذا آخر وطأتي بالأرض ، فضعيف جدا ، ولو صح لم يكن فيه معارضة ؛ لأنه يحمل على أنه آخر عهده بإنزال الوحي . وأما نزوله ليلة القدر مع الملائكة فذكره جماعة من المفسرين في قوله تعالى : ( تنزل الملائكة والروح فيها ) قالوا : المراد بالروح جبريل ، وروى فيه من حديث أنس مرفوعا [ ص: 459 ] " إذا كانت ليلة القدر نزل جبريل في كبكبة من السماء يصلون ويسلمون على كل قائم أو قاعد يذكر الله تعالى " .

            وأما نزوله على عيسى عليه السلام فأخرج مسلم في صحيحه من حديث النواس بن سمعان قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ، فذكر الحديث في قصة الدجال ونزول عيسى وقتله إياه ، قال : " فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى : إني قد أخرجت عبادا لي لا يدان لأحد في قتالهم ، فحرز عبادي إلى الطور ، ويبعث الله يأجوج ومأجوج " الحديث ، فقوله : أوحى الله إلى عيسى ، ظاهر في نزول جبريل إليه .

            وأما قوله : وهل يرد كلام الغزالي بالحديث المعارض ، فقد تبين أنه لا معارضة لعدم صحة الحديث أصلا ، ثم يحمله على ما ذكرناه كما تقدم .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية