الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            صفحة جزء
            [ ص: 254 ] المسلك الثاني : أنهما لم يثبت عنهما شرك بل كانا على الحنيفية دين جدهما إبراهيم عليه السلام ، كما كان على ذلك طائفة من العرب ، كزيد بن عمرو بن نفيل ، وورقة بن نوفل ، وغيرهما ، وهذا المسلك ذهبت إليه طائفة ، منهم الإمام فخر الدين الرازي : فقال في كتابه " أسرار التنزيل " ما نصه : قيل : إن آزر لم يكن والد إبراهيم ، بل كان عمه ، واحتجوا عليه بوجوه : منها أن آباء الأنبياء ما كانوا كفارا ، ويدل عليه وجوه : منها قوله تعالى : ( الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين ) قيل : معناه أنه كان ينقل نوره من ساجد إلى ساجد ، وبهذا التقدير فالآية دالة على أن جميع آباء محمد صلى الله عليه وسلم كانوا مسلمين ، وحينئذ يجب القطع بأن والد إبراهيم ما كان من الكافرين ، إنما ذاك عمه ، أقصى ما في الباب أن يحمل قوله تعالى : ( وتقلبك في الساجدين ) على وجوه أخرى . وإذا وردت الروايات بالكل - ولا منافاة بينها - وجب حمل الآية على الكل ، ومتى صح ذلك ثبت أن والد إبراهيم ما كان من عبدة الأوثان ، ثم قال : ومما يدل على أن آباء محمد صلى الله عليه وسلم ما كانوا مشركين قوله عليه السلام : لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات .

            وقال تعالى : ( إنما المشركون نجس ) فوجب أن لا يكون أحد من أجداده مشركا - هذا كلام الإمام فخر الدين بحروفه ، وناهيك به إمامة وجلالة ، فإنه إمام أهل السنة في زمانه ، والقائم بالرد على فرق المبتدعة في وقته ، والناصر لمذهب الأشاعرة في عصره ، وهو العالم المبعوث على رأس المائة السادسة ليجدد لهذه الأمة أمر دينها . وعندي في نصرة هذا المسلك وما ذهب إليه الإمام فخر الدين أمور :

            أحدها : دليل استنبطته مركب من مقدمتين ، الأولى : أن الأحاديث الصحيحة [ دلت ] على أن كل أصل من أصول النبي صلى الله عليه وسلم من آدم إلى أبيه عبد الله ، فهو من خير أهل قرنه وأفضلهم .

            والثانية : أن الأحاديث والآثار دلت على أنه لم تخل الأرض من عهد نوح أو آدم إلى بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ثم إلى أن تقوم الساعة من ناس على الفطرة ، يعبدون الله ويوحدونه ، ويصلون له ، وبهم تحفظ الأرض ، ولولاهم لهلكت الأرض ومن عليها . وإذا قارنت بين هاتين المقدمتين ، أنتج منها قطعا أن آباء النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن فيهم مشرك ؛ لأنه قد ثبت في كل منهم أنه من خير قرنه ، فإن كان الناس الذين هم على الفطرة هم إياهم فهو المدعى ، وإن كانوا غيرهم وهم على الشرك لزم أحد أمرين : إما أن يكون المشرك خيرا من المسلم ، وهو باطل بالإجماع ، وإما أن يكون غيرهم خيرا منهم ، وهو باطل ؛ لمخالفة الأحاديث [ ص: 255 ] الصحيحة ، فوجب قطعا أن لا يكون فيهم مشرك ؛ ليكونوا من خير أهل الأرض كل في قرنه .

            ذكر أدلة المقدمة الأولى : أخرج البخاري في صحيحه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا ، حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه .

            وأخرج البيهقي في " دلائل النبوة " ، عن أنس ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ما افترق الناس فرقتين إلا جعلني الله في خيرهما ، فأخرجت من بين أبوي ، فلم يصبني شيء من عهد الجاهلية ، وخرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح من لدن آدم حتى انتهيت إلى أبي وأمي ، فأنا خيركم نفسا وخيركم أبا .

            وأخرج أبو نعيم في " دلائل النبوة " من طرق ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لم يزل الله ينقلني من الأصلاب الطيبة إلى الأرحام الطاهرة مصفى مهذبا ، لا تنشعب شعبتان إلا كنت في خيرهما .

            وأخرج مسلم ، والترمذي وصححه ، عن واثلة بن الأسقع قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل ، واصطفى من ولد إسماعيل بني كنانة ، واصطفى من بني كنانة قريشا ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم .

            وقد أخرجه الحافظ أبو القاسم حمزة بن يوسف السهمي في فضائل العباس ، من حديث واثلة بلفظ : إن الله اصطفى من ولد آدم إبراهيم واتخذه خليلا ، واصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل ، ثم اصطفى من ولد إسماعيل نزار ، ثم اصطفى من ولد نزار مضر ، ثم اصطفى من مضر كنانة ، ثم اصطفى من كنانة قريشا ، ثم اصطفى من قريش بني هاشم ، ثم اصطفى من بني هاشم بني عبد المطلب ، ثم اصطفاني من بني عبد المطلب . أورده المحب الطبري في " ذخائر العقبى " .

            وأخرج ابن سعد في طبقاته ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خير العرب مضر ، وخير مضر بنو عبد مناف ، [ وخير بني مناف ] بنو هاشم ، وخير بني هاشم بنو عبد المطلب ، والله ما افترق فرقتان منذ خلق الله آدم إلا كنت في خيرهما .

            وأخرج الطبراني ، والبيهقي ، وأبو نعيم ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله خلق الخلق ، فاختار من الخلق بني آدم ، واختار من بني آدم العرب ، واختار من العرب مضر ، واختار من مضر قريشا ، واختار من قريش بني هاشم ، واختارني من بني هاشم ، فأنا من خيار إلى خيار .

            وأخرج الترمذي وحسنه ، والبيهقي ، عن ابن عباس بن عبد المطلب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله حين خلقني جعلني من خير خلقه ، ثم حين خلق القبائل جعلني من [ ص: 256 ] خيرهم قبيلة ، وحين خلق الأنفس جعلني من خير أنفسهم ، ثم حين خلق البيوت جعلني من خير بيوتهم ، فأنا خيرهم بيتا وخيرهم نفسا .

            وأخرج الطبراني ، والبيهقي ، وأبو نعيم ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله قسم الخلق قسمين ، فجعلني في خيرهما قسما ، ثم جعل القسمين أثلاثا ، فجعلني في خيرها ثلثا ، ثم جعل الأثلاث قبائل ، فجعلني في خيرها ، ثم جعل القبائل بيوتا ، فجعلني في خيرها بيتا .

            وأخرج أبو علي بن شاذان فيما أورده المحب الطبري في " ذخائر العقبى " ، وهو في " مسند البزار " ، عن ابن عباس قال : دخل ناس من قريش على صفية بنت عبد المطلب ، فجعلوا يتفاخرون ويذكرون الجاهلية ، فقالت صفية : منا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : تنبت النخلة أو الشجرة في الأرض الكبا ، فذكرت ذلك صفية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فغضب وأمر بلالا فنادى في الناس ، فقام على المنبر فقال : أيها الناس ، من أنا ؟ قالوا : أنت رسول الله . قال : انسبوني . قالوا : محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، قال : فما بال أقوام ينزلون أصلي ؟ فوالله إني لأفضلهم أصلا وخيرهم موضعا .

            وأخرج الحاكم عن ربيعة بن الحارث قال : بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن قوما نالوا منه فقالوا : إنما مثل محمد كمثل نخلة نبتت في كناس ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : إن الله خلق خلقه فجعلهم فرقتين ، فجعلني في خير الفرقتين ، ثم جعلهم قبائل ، فجعلني في خيرهم قبيلا ، ثم جعلهم بيوتا ، فجعلني في خيرهم بيتا ، ثم قال : أنا خيركم قبيلا وخيركم بيتا .

            وأخرج الطبراني في " الأوسط " والبيهقي في " الدلائل " ، عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال لي جبريل : قلبت الأرض مشارقها ومغاربها ، فلم أجد رجلا أفضل من محمد ، ولم أجد بني أب أفضل من بني هاشم .

            قال الحافظ ابن حجر في أماليه : لوائح الصحة ظاهرة على صفحات هذا المتن ، ومن المعلوم أن الخيرية والاصطفاء والاختيار من الله ، والأفضلية عنده لا تكون مع الشرك .

            ذكر أدلة المقدمة الثانية : قال عبد الرزاق في " المصنف " ، عن معمر ، عن ابن جريج قال : قال ابن المسيب : قال علي بن أبي طالب : لم يزل على وجه الدهر في الأرض سبعة [ ص: 257 ] مسلمون فصاعدا فلولا ذلك هلكت الأرض ومن عليها - هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين - ومثله لا يقال من قبل الرأي فله حكم الرفع ، وقد أخرجه ابن المنذر في تفسيره عن الدبري عن عبد الرزاق .

            وأخرج ابن جرير في تفسيره عن شهر بن حوشب قال : لم تبق الأرض إلا وفيها أربعة عشر يدفع الله بهم عن أهل الأرض وتخرج بركتها إلا زمن إبراهيم فإنه كان وحده .

            وأخرج ابن المنذر في تفسيره عن قتادة في قوله تعالى : ( قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي ) الآية ، قال : ما زال لله في الأرض أولياء منذ هبط آدم ، ما أخلى الله الأرض لإبليس إلا وفيها أولياء له يعملون لله بطاعته .

            وقال الحافظ أبو عمر بن عبد البر : روى ابن القاسم عن مالك قال : بلغني عن ابن عباس أنه قال : لا يزال لله تعالى في الأرض ولي ما دام فيها للشيطان ولي .

            وأخرج الإمام أحمد بن حنبل في الزهد ، والخلال في كرامات الأولياء بسند صحيح على شرط الشيخين عن ابن عباس قال : " ما خلت الأرض من بعد نوح من سبعة يدفع الله بهم عن أهل الأرض " هذا أيضا له حكم الرفع .

            وأخرج الأزرقي في تاريخ مكة عن زهير بن محمد قال : لم يزل على وجه الأرض سبعة مسلمون فصاعدا لولا ذلك لأهلكت الأرض ومن عليها .

            وأخرج الجندي في فضائل مكة عن مجاهد قال : لم يزل على الأرض سبعة مسلمون فصاعدا ، لولا ذلك هلكت الأرض ومن عليها .

            وأخرج الإمام أحمد في الزهد عن كعب قال : لم يزل بعد نوح في الأرض أربعة عشر يدفع بهم العذاب .

            وأخرج الخلال في كرامات الأولياء عن زاذان قال : ما خلت الأرض بعد نوح من اثني عشر فصاعدا يدفع الله بهم عن أهل الأرض .

            وأخرج ابن المنذر في تفسيره بسند صحيح عن ابن جريج في قوله : ( رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ) قال : فلن يزال من ذرية إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - ناس على الفطرة يعبدون الله ، وإنما وقع التقييد في هذه الآثار الثلاثة بقوله : من بعد نوح ؛ لأنه من قبل نوح كان الناس كلهم على الهدى .

            وأخرج البزار في مسنده ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم في تفاسيرهم ، والحاكم في المستدرك وصححه عن ابن عباس في قوله تعالى : ( كان الناس أمة واحدة ) [ ص: 258 ] قال : كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على شريعة من الحق فاختلفوا فبعث الله النبيين ، قال : وكذلك هي في قراءة عبد الله بن مسعود : " كان الناس أمة واحدة فاختلفوا " .

            وأخرج أبو يعلى والطبراني وابن أبي حاتم بسند صحيح عن ابن عباس في قوله : ( كان الناس أمة واحدة ) قال : على الإسلام كلهم .

            وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة في الآية قال : ذكر لنا أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الهدى وعلى شريعة من الحق ثم اختلفوا بعد ذلك فبعث الله نوحا ، وكان أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض . وأخرج ابن سعد في الطبقات من وجه آخر عن ابن عباس قال : ما بين نوح إلى آدم من الآباء كانوا على الإسلام .

            وأخرج ابن سعد من طريق سفيان بن سعيد الثوري عن أبيه عن عكرمة قال : كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام ، وفي التنزيل حكاية عن نوح ، عليه السلام : ( رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا ) وولد نوح سام مؤمن بالإجماع والنص ؛ لأنه نجا مع أبيه في السفينة ولم ينج فيها إلا مؤمن ، وفي التنزيل : ( وجعلنا ذريته هم الباقين ) بل ورد في أثر أنه كان نبيا ، أخرجه ابن سعد في الطبقات ، والزبير بن بكار في الموفقيات ، وابن عساكر في تاريخه عن الكلبي ، وولده أرفخشد صرح بإيمانه في أثر عن ابن عباس أخرجه ابن عبد الحكم في تاريخ مصر ، وفيه أنه أدرك جده نوحا وأنه دعا له أن يجعل الله الملك والنبوة في ولده ولد أرفخشد إلى تارح ، ورد التصريح بإيمانهم في أثر ، وأخرج ابن سعد في الطبقات من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن نوحا - عليه السلام - لما هبط من السفينة هبط إلى قرية فبنى كل رجل منهم بيتا فسميت سوق الثمانين فغرق بنو قابيل كلهم ، وما بين نوح إلى آدم من الآباء كانوا على الإسلام ، فلما ضاقت بهم سوق الثمانين تحولوا إلى بابل فبنوها فكثروا بها حتى بلغوا مائة ألف وهم على الإسلام ، ولم يزالوا على الإسلام وهم ببابل حتى ملكهم نمروذ بن كوش بن كنعان بن حام بن نوح ، فدعاهم نمروذ إلى عبادة الأوثان ففعلوا ، هذا لفظ هذا الأثر .

            فعرف من مجموع هذه الآثار أن أجداد النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا مؤمنين بيقين من آدم إلى زمن نمروذ ، وفي زمنه كان إبراهيم عليه السلام وآزر ، فإن كان آزر والد إبراهيم فيستثنى من سلسلة النسب ، وإن كان عمه فلا استثناء ، وهذا القول - أعني أن آزر ليس أبا إبراهيم - ورد عن جماعة من السلف ، أخرج ابن أبي حاتم بسند ضعيف عن ابن عباس في قوله : ( وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر ) [ ص: 259 ] قال : إن أبا إبراهيم لم يكن اسمه آزر وإنما كان اسمه تارح ، وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق - بعضها صحيح - عن مجاهد قال : ليس آزر أبا إبراهيم .

            وأخرج ابن المنذر بسند صحيح عن ابن جريج في قوله : ( وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر ) ، قال : ليس آزر بأبيه إنما هو إبراهيم بن تيرح - أو تارح - بن شاروخ بن ناحور بن فالخ ، وأخرج ابن أبي حاتم بسند صحيح عن السدي أنه قيل له اسم أبي إبراهيم آزر ، فقال : بل اسمه تارح ، وقد وجه من حيث اللغة بأن العرب تطلق لفظ الأب على العم إطلاقا شائعا وإن كان مجازا ، وفي التنزيل ( أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ) فأطلق على إسماعيل لفظ الأب وهو عم يعقوب ، كما أطلق على إبراهيم وهو جده ، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه كان يقول : الجد أب ، ويتلو ( قالوا نعبد إلهك وإله آبائك ) الآية . وأخرج عن أبي العالية في قوله : ( وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل ) قال : سمي العم أبا ، وأخرج عن محمد بن كعب القرظي قال : الخال والد والعم والد ، وتلا هذه الآية .

            فهذه أقوال السلف من الصحابة والتابعين في ذلك ، ويرشحه أيضا ما أخرجه ابن المنذر في تفسيره بسند صحيح عن سليمان بن صرد قال : لما أرادوا أن يلقوا إبراهيم في النار جعلوا يجمعون الحطب حتى أن كانت العجوز لتجمع الحطب ، فلما أن أرادوا أن يلقوه في النار قال : حسبي الله ونعم الوكيل ، فلما ألقوه قال الله : ( يانار كوني بردا وسلاما على إبراهيم ) فقال عم إبراهيم : من أجلي دفع عنه ، فأرسل الله عليه شرارة من النار فوقعت على قدمه فأحرقته ، فقد صرح في هذا الأثر بعم إبراهيم ، وفيه فائدة أخرى ، وهو أنه هلك في أيام إلقاء إبراهيم في النار ، وقد أخبر الله سبحانه في القرآن بأن إبراهيم ترك الاستغفار له لما تبين له أنه عدو لله ، ووردت الآثار بأن ذلك تبين له لما مات مشركا وأنه لم يستغفر له بعد ذلك .

            أخرج ابن أبي حاتم بسند صحيح عن ابن عباس قال : ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات ، فلما مات تبين له أنه عدو لله فلم يستغفر له ، وأخرج عن محمد بن كعب وقتادة ومجاهد والحسن وغيرهم قالوا : كان يرجوه في حياته فلما مات على شركه تبرأ [ ص: 260 ] منه ثم هاجر إبراهيم عقب واقعة النار إلى الشام كما نص الله على ذلك في القرآن ، ثم بعد مدة من مهاجره دخل مصر واتفق له فيها مع الجبار ما اتفق بسبب سارة وأخدمه هاجر ثم رجع إلى الشام ثم أمره الله أن ينقلها وولدها إسماعيل إلى مكة فنقلهما ودعا فقال : ( ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع ) إلى قوله : ( ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب ) فاستغفر لوالديه وذلك بعد هلاك عمه بمدة طويلة ، فيستنبط من هذا أن الذكر في القرآن بالكفر والتبري من الاستغفار له هو عمه لا أبوه الحقيقي ، فلله الحمد على ما ألهم .

            التالي السابق


            الخدمات العلمية