الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              حدثنا أبو أحمد محمد بن أحمد ، ثنا الحسن بن سفيان ، ثنا حيان بن موسى ، ثنا سهل بن علي ، قال : كتب عون بن عبد الله إلى ابنه : يا بني ح وحدثنا عبد الله بن محمد ، ثنا أحمد بن الحسين ، ثنا أحمد بن إبراهيم ، عن يحيى بن معين ، ثنا حجاج ، أنبأنا المسعودي ، عن عون بن عبد الله ، أنه قال لابنه : يا بني ، كن ممن نأيه عمن نأى عنه يقين ونزاهة ، ودنوه ممن دنا منه لين ورحمة ، ليس نأيه بكبر ولا بعظمة ، ولا دنوه خداع ولا خلابة ، يقتدي بمن قبله فهو إمام لمن بعده ، ولا يعزب علمه ، ولا يحضر جهله ، ولا يعجل بما رابه ، ويعفو فيما يتبين له ، يغمض في الذي له ، ويزيد في الحق الذي عليه ، والخير منه مأمول ، والشر منه مأمون ، إن كان مع الغافلين كتب من الذاكرين ، وإن كان مع الذاكرين لم يكتب من الغافلين ، ولا يغره ثناء من جهله ، ولا ينسى إحصاء ما قد علمه ، إن زكي خاف ما يقولون واستغفر لما لا يعلمون ، يقول : أنا أعلم بي من غيري ، وربي أعلم بي من نفسي ، وهو يستبطئ نفسه في العمل ، ويأتي ما يأتي من الأعمال الصالحة على وجل ، يظل يذكر ، ويمسي وهمه أن يشكر ، يبيت حذرا ، ويصبح فرحا ، حذرا لما حذر من الغفلة ، وفرحا لما أصاب من الغنيمة والرحمة ، إن عصته نفسه فيما يكره لم يطعها فيما أحبت ، فرغبته بما يخلد ، وزهادته فيما ينفد ، يمزج العلم بالحلم ، ويصمت ليسلم ، وينطق ليفهم ، ويخلو [ ص: 261 ] ليغنم ، ويخالق ليعلم ، لا ينصت لخير حين ينصت وهو يسهو ، ولا يستمع له وهو يلغو ، ولا يحدث أمانته الأصدقاء ، ولا يكتم شهادته الأعداء ، ولا يعمل من الخير شيئا رياء ، ولا يترك منه شيئا حياء ، مجالس الذكر مع القراء أحب إليه من مجالس اللهو مع الأغنياء .

              ولا تكن يا بني ممن يعجب باليقين من نفسه فيما ذهب ، وينسى اليقين فيما رجا وطلب ، يقول فيما ذهب : لو قدر شيء لكان ، ويقول فيما بقي : ابتغ أيها الإنسان ، شاخصا غير مطمئن ، ولا يثق من الرزق بما قد ضمن ، ولا تغلبه نفسه على ما يظن ، ولا يغلبها على ما يستيقن ، فهو من نفسه في شك ، ومن ظنه إن لم يرحم في هلك ، إن سقم ندم ، وإن صح أمن ، وإن افتقر حزن ، وإن استغنى افتتن ، وإن رغب كسل ، وإن نشط زهد ، يرغب قبل أن ينصب ، ولا ينصب فيما يرغب ، يقول : لم أعمل فأتعنى ؟ بل أجلس فأتمنى ، يتمنى المغفرة ويعمل بالمعصية ، كان أول عمره غفلة وغرة ، ثم أبقي وأقيل العثرة ، فإذا في آخره كسل وفترة ، طال عليه الأمل فافتتن ، وطال عليه الأمد فاغتر ، وأعذر إليه فما - عمر ، وليس فيما أعمر بمعذر ، - عمر ما يتذكر فيه من تذكر ، فهو من الذنب والنعمة موقر ، إن أعطى من ليشكر ، أو إن منع قال :لم يقدر ، أساء العبد واستأثر ، يرجو النجاة ولم يحذر ، ويبتغي الزيادة ولم يشكر ، حق أن يشكر وهو أحق أن لا يعذر ، يتكلف ما لم يؤمر ، ويضيع ما هو أكثر ، إن يسأل أكثر ، وإن أنفق قتر ، يسأل الكثير ، وينفق اليسير ، قدر له خير من قدره لنفسه فوسع له رزقه ، وخفف حسابه ؛ فأعطي ما يكفيه ومنع ما يلهيه ، فليس يرى شيئا يغنيه دون غنى يطغيه ، يعجز عن شكر ما أوتي ، ويبتغي الزيادة فيما بقي ، يستبطئ نفسه في شكر ما أوتي ، وينسى ما عليه من الشكر فيما وفي ، وينهى فلا ينتهي ، ويأمر بما لا يأتي ، يهلك في بغضه ويقصر في حبه ، غره من نفسه حبه ما ليس عنده ، وبغضه على ما عنده مثله ، يحب الصالحين فلا يعمل أعمالهم ، ويبغض المسيئين وهو أحدهم ، يرجو [ ص: 262 ] الآخرة في البغض على ظنه ، ولا يخشى المقت في اليقين من نفسه ، لا يقدر في الدنيا على ما يهوى ، ولا يقبل من الآخرة ما يبقى ، يبادر من الدنيا ما يفنى ، ويترك من الآخرة ما يبقى ، إن عوفي حسب أنه قد تاب ، وإن ابتلي عاد ، يقول في الدنيا قول الزاهدين ، ويعمل فيها عمل الراغبين ، يكره الموت لإساءته ، ولا ينتهي عن الإساءة في حياته ، يكره الموت لما لا يدع ، ويحب الحياة لما لا يصنع ، إن منع من الدنيا لم يقنع ، وإن أعطي منها لم يشبع ، وإن عرضت الشهوة قال : يكفيك العمل فواقع ، وإن عرض له العمل كسل وقال : يكفيك الورع ، لا تذهب مخافته الكسل ، ولا تبعثه رغبته على العمل .

              يرجو الأجر بغير عمل ، ويؤخر التوبة لطول الأمل ، ثم لا يسعى فيما له خلق ، ورغبته فيما تكفل له من الرزق ، وزهادته فيما أمر به من العمل ، ويتفرغ لما فرغ له من الرزق ، يخشى الخلق في ربه ، ولا يخشى الرب في خلقه ، يعوذ بالله ممن هو فوقه ، ولا يعيذ بالله من هو تحته ، يخشى الموت ، ولا يرجو الفوت ، يأمن ما يخشى وقد أيقن به ، ولا ييأس مما يرجو وقد تيقن منه ، يرجو نفع علم لا يعمل به ، ويأمن ضر جهل قد أيقن به ، يسخر بمن تحته من الخلق ، وينسى ما عليه فيه من الحق ، ينظر إلى من هو فوقه في الرزق ، وينسى من تحته من الخلق ، يخاف على غيره بأدنى من ذنبه ، ويرجو لنفسه بأيسر من عمله ، يبصر العورة من غيره ويغفلها من نفسه ، إن ذكر اليقين قال :ما هكذا من كان قبلكم ، فإن قيل : أفلا تعمل أنت عملهم ؟ يقول : من يستطيع أن يكون مثلهم ، فهو للقول مدل ، ويستصعب عليه العمل ، يرى الأمانة ما عوفي وأرضي ، والخيانة إن أسخط وابتلي ، يلين ليحسب عنده أمانة فهو يرصدها للخيانة ، يتعلم للصداقة ما يرصد به للعداوة ، يستعجل بالسيئة وهو في الحسنة بطيء ، يخف عليه الشعر ، ويثقل عليه الذكر ، اللغو مع الأغنياء أحب إليه من الذكر مع الفقراء ، يتعجل النوم ويؤخر الصوم ، فلا يبيت قائما ولا يصبح صائما ، ويصبح وهمه التصبح من النوم ولم يسهر ، ويمشي وهمه العشاء وهو مفطر .

              زاد الحجاج عن المسعودي في روايته : إن صلى اعترض ، وإن ركع ربض [ ص: 263 ] وإن سجد نقر ، وإن سأل ألحف ، وإن سئل سوف ، وإن حدث حلف ، وإن حلف حنث ، وإن وعد أخلف ، وإن وعظ كلح ، وإن مدح فرح ، طلبه شر ، وتركه وزر ، ليس له في نفسه عن عيب الناس شغل ، وليس لها في الإحسان فضل ، يميل لها ويحب لها منهم العدل ، أهل الخيانة له بطانة ، وأهل الأمانة له عداوة ، إن سلم لم يسمع ، وإن سمع لم يرجع ، ينظر نظر الحسود ، ويعرض إعراض الحقود ، يسخر بالمقتر ، ويأكل بالمدبر ، ويرضي الشاهد بما ليس في نفسه ، ويسخط الغائب بما لا يعلم فيه ، جريء على الخيانة ، بريء من الأمانة ، من أحب كذب ، ومن أبغض خلب ، يضحك من غير العجب ، ويمشي في غير الأدب ، لا ينجو منه من جانب ، ولا يسلم منه من صاحب ، إن حدثته ملك ، وإن حدثك غمك ، وإن سؤته سرك ، وإن سررته ضرك ، وإن فارقته أكلك ، وإن باطنته فجعك ، وإن تابعته بهتك ، وإن وافقته حسدك ، وإن خالفته مقتك ، يحسد أن يفضل ، ويزهد أن يفضل ، يحسد من فضله ، ويزهد أن يعمل عمله ، يعجز عن مكافأة من أحسن إليه ، ويفرط فيمن بغى عليه ، ولا ينصت فيسلم ، ويتكلم بما لا يعلم ، يغلب لسانه قلبه ، ولا يضبط قلبه قوله ، يتعلم للمراء ، ويتفقه للرياء ، ويظهر الكبرياء ، فيظهر منه ما أخفى ، ولا يخفي منه ما أبدى ، يبادر ما يفنى ، ويواكل ما يبقى ، يبادر بالدنيا ، ويواكل بالتقوى .

              حدثنا أبي ، وعبد الله بن محمد ، قالا : ثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن ، ثنا أبو عمار أحمد بن محمد بن الجراح ، ثنا إبراهيم بن بلخ البلخي ، قال : سمعت سفيان بن عيينة يقول : ثنا مسعر ، قال : قال عون بن عبد الله : ما كان الله لينقذنا من شيء ثم يعيدنا فيه وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها وما كان الله ليجمع أهل قسمين في النار وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت ونحن نقسم بالله جهد أيماننا ليبعثن الله من يموت .

              حدثنا عبد الله بن محمد ، ثنا علي بن إسحاق ، ثنا الحسين بن الحسن المروزي ، ثنا عبد الله بن المبارك ، ثنا عبد الله بن الوليد بن عبد الله بن معقل ، ثنا عون [ ص: 264 ] بن عبد الله ، أنه قال : أوصى رجل ابنه ، فقال : يا بني ، عليك بتقوى الله ، وإن استطعت أن تكون اليوم خيرا منك أمس ، وغدا خيرا منك اليوم فافعل ، وإذا صليت فصل صلاة مودع ، وإياك وكثرة طلب الحاجات ؛ فإنها فقر حاضر ، وإياك وما يعتذر منه .

              حدثنا عبد الله بن جعفر فيما قرئ عليه ، قال : ثنا أسيد بن عاصم ، ثنا زيد بن عوف ، ثنا سعد بن زربي ، عن ثابت البناني ، قال : كان لعون بن عبد الله جارية يقال لها : بشرة ، وكانت تقرأ القرآن بألحان ، فقال لها يوما : يا بشرة ، اقرئي على إخواني ، فكانت تقرأ بصوت فيه ترجيع حزين ، فلقيتهم يلقون العمائم عن رءوسهم ويبكون ، فقال لها يوما : يا بشرة ، قد أعطيت بك ألف دينار لحسن صوتك ، اذهبي فلا يملكك علي أحد ، فأنت حرة لوجه الله . قال ثابت : فهي هناك عجوز بالكوفة لولا أن أشق عليها لبعثت إليها حتى تقدم علينا فتكون عندنا حتى تموت .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية