الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              حدثنا محمد بن إسحاق ، ثنا إبراهيم ، ثنا مسبح بن حاتم العكلي ، ثنا الوليد بن عمرو الجدعاني ، قال : اجتمع الناس عند سفيان بن عيينة بمكة ، فقال لرجل : حدث الناس بحديث الحية . فقال : خرج رجل يتصيد ، فخرجت حية من بين قوائم شعب دابته ، فقامت على ذنبها ثم قالت : أجرني أجارك الله . قال لها : فمن أنت ؟ قالت : من أهل شهادة أن لا إله إلا الله . قال : وممن أجيرك ؟ قالت : من هذا الذي خلفك ، إن قدر علي قطعني إربا إربا . قال : وأين أخبئك ؟ قالت : في بطنك . ففتح فاه ، فدخلت في بطنه ، فإذا رجل قد أقبل ، على عنقه حديدة ، فقال : يا عبد الله ، حية خرجت من قوائم دابتك ؟ قال : ما رأيت شيئا . قال : ما أعجب ما تقول ! قال : ما رأيت شيئا . فولى الرجل ، فقالت له : ترى شخصه ؟ ترى سواده ؟ قال لها : لا . قالت : فاختر مني خصلة من اثنين ؛ إما أن أثقب فؤادك فأقتلك ، أو أفتت كبدك . قال : ما كافأتيني . قالت : ولم تصنع المعروف إلى من لا تعرف ؟ أما علمت بعداوتي لأبيك قبل ؟ قال : فجاء الرجل إلى سفح جبل ، فإذا هو برجل قائم لم ير شيء أحسن منه ، ولا أطيب رائحة منه ، ولا أنظف ثوبا ، فقال : ما لي أراك هكذا ؟ فحدثه بحديث الحية . فدفع إليه شيئا ، فقال : كل هذا . فأكله فاختلجت شفتاه ، ثم دفع إليه شيئا آخر فقال : كل هذا . فأكله فرمى بها قطعا ، فقال : من أنت يرحمك الله ؟ قال : أنا المعروف . ثم غاب عن بصره .

              [ ص: 293 ] حدثنا محمد بن إبراهيم بن أحمد أبو طاهر ، ثنا أبو نصر محمد بن الحجاج السلمي المقرئ بالرافقة ، ثنا أحمد بن العلاء أخو هلال ، ثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني ، قال : كنت في مجلس سفيان بن عيينة ، وكان في مجلسه ألف رجل ، يزيدون أو ينقصون ، فالتفت في آخر مجلسه إلى رجل كان عن يمينه ، فقال : قم فحدث الناس بحديث الحية ، فقال الرجل : أسندوني . فأسندناه ، وسالت جفون عينيه ، ثم قال : ألا فاسمعوا وعوا ، حدثني أبي ، عن جدي ، أن رجلا كان يعرف بمحمد بن حمير ، وكان رجلا معه ورع ، يصوم النهار ، ويقوم الليل ، وكان مبتلى بالقنص ، فخرج ذات يوم يتصيد ، إذ عرضت له حية ، فقالت له : يا محمد بن حمير ، أجرني أجارك الله ، قال لها محمد بن حمير : ممن ؟ قالت : من عدوي قد طلبني ، قال : وأين عدوك ؟ قالت له : من ورائي ولها . قال : من أي أمة أنت ؟ قالت : من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، نشهد أن لا إله إلا الله . قال : ففتحت ردائي فقلت : ادخلي فيه . فقالت : يراني عدوي . قال : فشلت طمري فقلت : ادخلي بين أطماري وبطني . قالت : يراني عدوي . قلت لها : فما الذي أصنع بك ؟ قالت : إن أردت اصطناع المعروف فافتح لي فاك حتى أنساب فيه . قال : أخشى أن تقتليني . قالت : لا والله لا أقتلك ، الله شاهد علي بذلك وملائكته ، وأنبياؤه ، وحملة عرشه ، وسكان سماواته إن أنا قتلتك . قال محمد : فاطمأننت إلى يمينها ، ففتحت فمي فانسابت فيه ، ثم مضيت إذ عارضني رجل ومعه صمصامة ، فقال : يا محمد . قلت : ما تشاء ؟ قال : لقيت عدوي ؟ قلت : وما عدوك ؟ قال : حية . قلت : اللهم لا ، واستغفرت ربي من قولي : ( لا ) مائة مرة ، وقد علمت أين هي ، ثم مضيت أقول ذلك إذ قد أخرجت رأسها من فمي ، ثم قالت : انظر مضى هذا العدو ؟ فالتفت فلم أر إنسانا ، فقلت : ليس أرى إنسانا ، إن أردت أن تخرجي فاخرجي . قالت : انظر مليا . قال محمد : فرميت حماليق عيني في الصحراء ، فلم أر شبحا ولا شخصا ولا إنسانا ، فقلت : إن أردت أن تخرجي فاخرجي ، فليس أرى إنسانا . قالت : الآن يا محمد ، اختر واحدة من اثنتين . قلت : وما هي ؟ قالت : إما أن أنكت كبدك فأفتتها في جوفك ، أو أنكتك نكتة فأطرح جسدك بلا روح ، [ ص: 294 ] قال : قلت : يا سبحان الله ، أين العهد الذي عهدت إلي ؟ أين العهد الذي عاهدتنيه واليمين الذي حلفت لي ؟ ما أسرع ما نسيتيه !! قالت له : يا محمد ، لم نسيت العداوة التي كانت بيني وبين أبيك آدم ، حيث أضللته وأخرجته من الجنة ؟ على أي شيء طلبت اصطناع المعروف ؟ قال : فقلت لها : وليس بد من أن تقتليني ؟ قالت : والله إن كان بد من قتلك . قال : قلت لها : فأمهليني حتى أصير إلى تحت هذا الجبل فأمهد لنفسي موضعا . قالت : شأنك . قال محمد : فمضيت أريد الجبل وقد أيست من الحياة ، إذ رميت حماليق عيني نحو العرش ، ثم قلت : يا لطيف اللطف بلطفك الخفي ، يا لطيف بالقدرة التي استويت بها على عرشك ، فلم يعلم العرش أين مستقرك منه إلا كفيتنيها . ثم مشيت ، فعارضني رجل صالح صبيح الوجه ، طيب الرائحة ، نقي من الدرن ، فقال لي : سلام عليكم ، فقلت : وعليك السلام يا أخي ، قال : ما لي أراك قد تغير لونك ؟ فقلت : يا أخي ، من عدو قد ظلمني . قال : وأين عدوك ؟ قلت : في جوفي . قال لي : افتح فاك . ففتحت فمي ، فوضع فيه مثل ورقة زيتونة خضراء ، ثم قال : امضغ وابلع . فمضغت وبلعت . قال محمد : فلم ألبث إلا يسيرا حتى مغصتني بطني ، فرميت بها من أسفل قطعة قطعة ، فتعلقت بالرجل ، ثم قلت : يا أخي ، أحمد الله الذي من علي بك . فضحك ثم قال : ألا تعرفني ؟ قلت : اللهم لا . قال : يا محمد بن حمير ، إنه لما كان بينك وبين الحية ما كان ، ودعوت بذلك الدعاء ضجت ملائكة السبع سماوات إلى الله عز وجل ، فقال الله : وعزتي وجلالي ، وجودي وارتفاعي في علو مكاني ، قد كان بعيني كل ما فعلت الحية بعبدي . فأمرني الله - وأنا الذي يقال لي المعروف ، مستقري في السماء الرابعة - أن انطلق إلى الجنة فخذ طاقة خضراء ، فالحق بها عبدي محمد بن حمير ، يا ابن حمير ، عليك باصطناع المعروف ؛ فإنه يقي مصارع السوء ، وإنه إن ضيعه المصطنع إليه لم يضع عند الله عز وجل .

              أخبرنا جعفر بن محمد بن نصير - في كتابه - وحدثني عنه محمد بن إبراهيم ، ثنا أحمد بن محمد بن مسروق ، ثنا محمد بن الحسين ، ثنا أبو عبد الله الرازي ، قال : قال سفيان بن عيينة : عليك بالنصح لله في خلقه ؛ فلن تلقى الله بعمل أفضل منه ، لو هبط علي ملك من السماء فأخبرني أن الناس كلهم يدخلون الجنة ، وأنا [ ص: 295 ] وحدي أدخل النار ، لكنت بذلك راضيا .

              حدثنا محمد بن علي ، ثنا أحمد بن الحسين بن طلاب ، ثنا أحمد بن أبي الحواري ، ثنا مروان بن محمد ، قال : سمعت سفيان بن عيينة ، وسأله رجل عن مسألة ، فقال : لا أدري ، فقال له : يا أبا محمد ، إنها قد كانت ، فقال له سفيان : فإذا قد كان قد كانت ، وأنا لا أدري ، فأيش يعمل ؟ .

              حدثنا محمد بن علي ، ثنا أحمد بن الحسين ، ثنا أحمد بن أبي الحواري ، ثنا مروان ، قال : سمعت سفيان بن عيينة ، وقال لشيخ عنده - أو إلى جانبه - : يا شيخ ، بلغني أنك تفتي في بلادك ، قال : نعم يا أبا محمد ، قال : أحمق والله .

              حدثنا محمد ، ثنا أحمد ، ثنا أحمد بن أبي الحواري ، ثنا أحمد بن أبي داود ، قال : صلينا مع سفيان بن عيينة على جنازة ، فسأله رجل عن مسألة ، فقال : ما أحسن . قال : وسمعت سفيان بن عيينة وسأله رجل في المسجد الحرام ونحن عنده جلوس : يا أبا محمد ، إنا نغزو أرض الروم ، فيخرج معنا بالطاحونة ؟ فقال : سل عن هذا أهل الشام ؛ فإنهم أعلم به منا .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية