الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              أخبرنا جعفر بن محمد بن نصير - في كتابه - وحدثني عنه عثمان بن محمد ، قال : سمعت الجنيد بن محمد ، يقول : سمعت أبا عبد الله الحارث بن أسد ، يقول - وسأله سائل - : إن النعم من الله تعالى علي لا تحصى ، ظاهرة وباطنة ، وعامة وخاصة ، صغيرة وكبيرة ، في كل أحوالي ، ومع كل أسبابي ، ومع كل شيء من بدني وجوارحي وعقلي وطبعي وحياتي وعيشي ، وكل ما أتقلب فيه ، وكل منفعة تحدث في ديني ودنياي ، وكل ليل ونهار يختلف علي ، وشمس وقمر وسائر الأشياء نعم علي ، إلا أني أجدني في أكثرها غافلا عن شكره عليها ، إلا النعمة العظيمة كالكرب ينزل بي فيفرج الله عني كربي ، وينفس عني غمي ، وكالمال الكثير يرزقني ، فإن عظمت النعمة انتبهت لعظيم قدرها ، وموقع منفعتها لي ، فانتبهت للشكر وذكرت أنها من الله تفضل ، وحمدته عليها ، وسائر النعم لقلة قدرها أنسى أنها نعمة ، فإن ذكرت أنها نعمة ذكرتها ذكرا بغير تعظيم لها ، ولم تهج شدة الشكر عليها ، حتى لقد نسيت الشكر عند أكثر النعم ، إلا عند الفرج من الكروب ، أو النعمة العظيمة في المنفعة ، فقال الحارث : " هذا فعل عامة العباد من الجاهلين ، يعاملون الله على قدر عظيم إحسانه وقلته ، وإن أكثر ما قل من النعم لربما كان أكثر منفعة من عظيمها ، وربما كان عظيمها يعقب ضرارا في الدين أو في الدنيا ، ولربما كان إحسان الله في النعمة الصغيرة أكثر من النعمة في كبيرها ، لعاقبة منفعتها ، ولربما عظمت النعمة من سعة الدنيا ، فيطغى صاحبها وتشغله حتى يعصي الله ، فيدخل النار ، ولو كانت النعمة أقل من ذلك لما أطغته ولا ألزمته كثرة الفرائض فيها ، فلا يقوم بها ، كمن كثرت الحقوق عليه لله في السعة ، فلم يقم بحقه من أداء الزكاة في مواضعها بغير مكافأة ليد الفقير عنده ، ولا اجتلاب حمد ولا ثناء ، ولا مخافة ذم ، وكذلك صلة القرابة والجار المحتاج البين حاجته وغير ذلك ، وربما ضرته السعة في الدنيا دون الدين ، وربما قتله كثرة ماله من لصوص [ ص: 102 ] يقتلونه عليه ، وغير ذلك ، طيب الطعام ، كثرته قد تضره حتى تورثه الأوجاع والسقم ، وكذلك يوهب له الولد الذكر فيعصي الله فيه ، وربما ضره في الدنيا ، وغمه بما يصيبه من الأسقام ، وربما كبر حتى يلجئه إلى الاختلاف إلى السجون ومخاصمة الجيران فيه ، أو عداوتهم ، وكذلك يكون في الكرب الشديد من المرض ، أو بمن يعنيه أمره من ولد وأهل ، فيكثر دعاؤه وتضرعه ، ويتصدق ويخشع قلبه ، فإذا فرج عنه وعاد إلى العافية رجع إلى اللهو والشهوة والعصيان ، وقل تضرعه إلى الله ، فكان المرض أصلح لقلبه وأوفر لدينه ، وكانت العافية إن استعملها فيما يضره في دينه أضر عليه من المرض ، وكفاك بعلم الله تعالى في ابن آدم ، ووصفه له ؛ إذ يقول : ( وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض ) ، وقال : ( وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه ) ، ومثل ذلك في كتاب الله كثير ، فإنما أتيت أنك نظرت إلى قدر النعم عند ورودها عليك ، ولم تنظر في عواقبها في دينك ودنياك ، ما تكون في العاقبة أتضر أم تنفع ؟ ألم تسمع قول الله : ( آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا ) ، والله ما تدري إذا وردت النعم عليك أيها أنفع لك ، أقليلها أم كثيرها ؟ فإذا وردت عليك النعمة فاحمد الله الذي من بها ، وكن مشفقا من أدنى السلامة منها في دينك ودنياك ، فإن كانت صغيرة فاستصغرها قلبك فاذكر عاقبتها وخيرة الله فيها ، فلعل الله أن يكون قد خار لك فيها ونظر لك بأن قللها ، ولم يجعلها أعظم مما هي ، لعله قد علم أنها لو عظمت وزادك منها أنك تعصي بها ، فيغضب عليك ، أو تطغيك في دنياك أو تورثك ضررا في دينك ، ألا ترى أنك تعمل بظاهر النعم وتنسى عواقبها ، وقد تبينت عواقبها بالتجارب فيك وفي غيرك ، من كثير الضرر في عظيمها ، وكثرة السلامة في أكثر ما صغر منها ، والله لقد بين لك مولاك أن كثيرا منها كان زوالها نعمة عظيمة من الله على من زالت عنه ، وأن بقاءها بلية عليه ، من ذلك أن الغلام الذي قتله الخضر - عليه السلام - قد كان نعمة في الظاهر عظيمة لأنه غلام ذكر ، وقد روي أن الخضر مر مع [ ص: 103 ] موسى - عليهما السلام - بعشرة غلمان ، فأخذ غلاما أضوؤهم وأحسنهم وجها ، فقطف وجهه ، فأخبرك العليم الخبير بعواقب ضرر النعم وبمنافع عواقبها ، فقال : ( وأما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا ) ، فصرف عنهما بقتله إياه أن يدخلا النار ، وقد قال مجاهد : قد علمنا أن أبويه قد فرحا به حين ولد ، وحزنا عليه حين قتل ، وكان في بقائه هلكتهما ، وكذلك قلع الخضر لوحا من السفينة في لجج البحر ، وكان عند أصحابها أن في ذلك الغرق ، وقد قال موسى : ( أخرقتها لتغرق أهلها ) ؟ وإنما خرقها لينجو أهلها أن لا تمر بالملك الغاصب فيراها صحيحة فيأخذها ، فالغلام قتله خيرة في الدين ، والسفينة خرقها خيرة في الدنيا ، فبهذا فاستدل أن النعم ليست في المنافع على قدر عظمها وصغرها ؛ لأن الغلام لو كان ابنة لم يخش عليه عاقبة طغيان أبويه فيها ، ومما يبين لك هذا قوله تعالى : ( فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحما ) قيل : التفسير رزقا ابنة تزوجها نبي ، وخرج من نسلها سبعون نبيا " .

              أخبرنا جعفر بن محمد بن نصير - في كتابه - وحدثني عنه عثمان بن محمد ، قال : سمعت الجنيد بن محمد ، يقول : سئل الحارث بن أسد عن قول الله تعالى : ( وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ) ، وعن قوله - صلى الله عليه وسلم - : " لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير ، تغدو خماصا وتروح بطانا " ما السبيل أكرم الله وجهك إلى هذا التوكل الذي ندب الله المؤمنين إليه ؟ صف لي كيف هو ؟ وكيف دخول الناس فيه ؟ فقال الحارث رحمه الله : " الناس يتفاوتون في التوكل ، وتوكلهم على قدر إيمانهم وقوة علومهم ، قيل : ما معنى قوة إيمانهم ؟ قال : تصديقهم للعدة ، وثقتهم بالضمان ، قيل : فمن أين فضلت الخاصة منهم على العامة ، والتوكل في اعتقاد الإيمان مع كل من آمن بالله ؟ قال : الذي فضلت به الخاصة على العامة دوام سكون القلب عن الاضطراب ، والهدوء عن الحركة ، فعندها يا فتى استراحوا من عذاب الحرص ، وفلوا من أسر الطمع ، وخرجوا من ضيق طول الأمل ، قيل : فما الذي ولد هذا ؟ قال : حالتان : الأولى منهما دوام لزوم القلب المعرفة ، والاعتماد على الله ، وترك [ ص: 104 ] الحيل ، والثانية كثرة الممارسة حتى يألفها إلفا ، ويختارها اختيارا ، قيل : فالتوكل في نفسه ما هو ؟ وما معناه ؟ قال : قد اختلف الناس فيه ، قيل له : اختصر منه جوابا موجزا ، قال : نعم ، التوكل هو الاعتماد على الله بإزالة الطمع من سوى الله ، وترك تدبير النفوس في الأغذية ، والاستغناء بالكفاية ، وموافقة القلب لمراد الرب ، والقعود في طلب العبودية ، واللجأ إلى الله ، قيل : فهل يلحق التوكل الأطماع ؟ قال : يلحقه الأطماع من طريق الطباع خطرات ، ولا يضره ذلك شيئا ، قيل : فما الذي يقويه على إسقاط الطمع ؟ قال : اليأس مما في أيدي الناس حتى يكون بما معه من الثقة بما وعده سيده أغنى ممن يملك الدنيا بحذافيرها ، كما قيل لأبي حازم : ألك مال ؟ قال : أكثر المال ثقتي بربي ، ويأسي مما في أيدي الناس ، وكان أبو حازم يقول : الدنيا شيئان : شيء لي ، وشيء لغيري ، فما كان لي لو طلبته بحيلة من في السماوات والأرض لم يأتني قبل أجله ، وما كان لغيري لم أرجه فيما مضى ولا أرجوه فيما بقي ، يمنع رزقي من غيري كما يمنع رزق غيري مني ، ففي أي هذين أفني عمري ؟ وكان بعضهم يقول :


              اترك الناس فكل مشغله وقد بخل الناس بمثل الخردله     لا تسل الناس وسل من أنت له



              قيل : فما الذي يقوي المتوكل ؟ قال : ثلاث خصال : الأولى منها حسن الظن بالله ، والثانية نفي التهم عن الله ، والثالثة الرضا عن الله تعالى فيما جرى به التدبير لتأخير الأوقات وتعجيلها ، قيل : بم تلحق هذه المنزلة ؟ قال : بصفاء اليقين وتمامه ، فإن اليقين إذا تم سمي تمامه توكلا ، وهكذا قال ذو النون المصري ، فهم بالحالة العالية والمقام الشريف كما قال أبو سليمان الداراني لأحمد بن أبي الحواري : ما من حالة من حالات المتعبدين إلا وشيخك هذا قد دخل فيها وعرفها ، إلا هذا التوكل المبارك الذي ما أعرفه إلا بمشام الريح ، وقال ذو النون المصري : المقامات سبع عشرة مقامة أدناها الإجابة وأعلاها صدق التوكل ، قيل : فما أجمل ما تراه القلوب في باطنها ويلحقها فكر خواطر الأطماع ؟ [ ص: 105 ] قال : تنبيها من الله بحرص الجوارح عن إشارة الأرواح فيما طمعت حياء من الله تعالى أن يراهم يستريحون إلى غيره ، كما قال الحكيم :


              مريدوه يستحيون أن يراهم     يشيرون بالأرواح نحو سواه



              قيل : هذا في الظاهر واليقظة ، فهل لهم زاجر في مناماتهم عند إشارة الأرواح ومطالعتها في خطرات الأطماع ؟ قال : قد روي عن النباحي ، قال : طمعت يوما في شيء من أمور الدنيا فحملتني عيناي ونمت ، فسمعت هاتفا في منامي وهو يقول : أويجمل يا فتى بالحر المريد إذا وجد عند مولاه كل ما يريد - أن يركن بقلبه إلى العبيد ؟ فهو - عز وجل - يزجرهم ويثبتهم ويريهم مواضع الشين والخلل ، ليعملوا في شدة تمام اليقين ، وكثرة السكون ، والاعتماد عليه دون خلقه ، فتكون لهم الزيادة في مقامهم ، وحسن اللجأ في افتقارهم إلى سيدهم ، فمرهم يا فتى على الاستواء ، قيل : فما معنى قوله تعالى : ( ومن يتوكل على الله فهو حسبه ) ؟ قال : أي سببه بمعنى حسبي من كل شيء أن أتوكل عليه ، قيل : فما الأسباب التي تشين توكله ؟ قال : الأسباب التي فيها الحرص والمكابدة على الدنيا والأسباب التي تشغله عن دوام السكون وتزيد في الاضطراب وتقوي خوف الفوت ، وهي الأسباب التي تستعبده وتتعبه ، فتلك التي يؤمر بقطعها حتى يستريح بروح اليقين ، ويتفرج بحياة الاستغناء ، قيل : فما علامة سكون المتوكل ؟ قال : تحركه أزعاج المستبطئ فيما ضمن له من رزق ربه ، ولا تخلفه فترة المتواني عن فرصته ، قيل : أيجد هذا فقد شيء منعه ؟ قال : لا يجد فقده إذا منعه لعلة معرفته بحسن اختيار الله له أملا من الله أن يعوضه في حسن العواقب أفضل من إرادته بالعاجل ، كأنه يراه قريبا ، فمن هاهنا لا يجد فقد شيء منعه ، قيل : فما يقويه على هذه الحالة ؟ قال : حسن علمه بحسن تدبير الله له ، فعندها أسقط عن قلبه اختياره لنفسه ورضي بما اختار الله له " .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية