الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( فصرهن إليك ) ففيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قرأ حمزة " فصرهن إليك " بكسر الصاد ، والباقون بضم الصاد ، أما الضم ففيه قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه من صرت الشيء أصوره إذا أملته إليه ، ورجل أصور أي مائل العنق ، ويقال : صار فلان إلى كذا إذا قال به ومال إليه ، وعلى هذا التفسير يحصل في الكلام محذوف ، كأنه قيل : أملهن إليك وقطعهن ، ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ، فحذف الجملة التي هي قطعهن لدلالة الكلام عليه كقوله : ( أن اضرب بعصاك ) [ ص: 37 ] ( البحر فانفلق ) [الشعراء : 63] على معنى : فضرب فانفلق لأن قوله : ( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ) يدل على التقطيع .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : ما الفائدة في أمره بضمها إلى نفسه بعد أن يأخذها ؟ .

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : الفائدة أن يتأمل فيها ويعرف أشكالها وهيآتها لئلا تلتبس عليه بعد الإحياء ، ولا يتوهم أنها غير تلك .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثاني : وهو قول ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد ( فصرهن إليك ) معناه قطعهن ، يقال : صار الشيء يصوره صورا ، إذا قطعه ، قال رؤبة يصف خصما ألد : صرناه بالحكم ، أي قطعناه ، وعلى هذا القول لا يحتاج إلى الإضمار ، وأما قراءة حمزة بكسر الصاد ، فقد فسر هذه الكلمة أيضا تارة بالإمالة ، وأخرى بالتقطيع ، أما الإمالة فقال الفراء : هذه لغة هذيل وسليم : صاره يصيره إذا أماته ، وقال الأخفش وغيره : " صرهن " بكسر الصاد : قطعهن . يقال : صاره يصيره إذا قطعه ، قال الفراء : أظن أن ذلك مقلوب من صرى يصري إذا قطع ، فقدمت ياؤها ، كما قالوا : عثا وعاث ، قال المبرد : وهذا لا يصح ، لأن كل واحد من هذين اللفظين أصل في نفسه مستقل بذاته ، فلا يجوز جعل أحدهما فرعا عن الآخر .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : أجمع أهل التفسير على أن المراد بالآية : قطعهن ، وأن إبراهيم قطع أعضاءها ولحومها وريشها ودماءها ، وخلط بعضها على بعض ، غير أبي مسلم فإنه أنكر ذلك ، وقال : إن إبراهيم عليه السلام لما طلب إحياء الميت من الله تعالى أراه الله تعالى مثالا قرب به الأمر عليه ، والمراد بصرهن إليك الإمالة والتمرين على الإجابة ، أي : فعود الطيور الأربعة أن تصير بحيث إذا دعوتها أجابتك وأتتك ، فإذا صارت كذلك ، فاجعل على كل جبل واحدا حال حياته ، ثم ادعهن يأتينك سعيا ، والغرض منه ذكر مثال محسوس في عود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة . وأنكر القول بأن المراد منه : فقطعهن ، واحتج عليه بوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن المشهور في اللغة في قوله : ( فصرهن ) أملهن ، وأما التقطيع والذبح فليس في الآية ما يدل عليه ، فكان إدراجه في الآية إلحاقا لزيادة بالآية لم يدل الدليل عليها وأنه لا يجوز .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أنه لو كان المراد بصرهن قطعهن لم يقل إليك ، فإن ذلك لا يتعدى بإلى وإنما يتعدى بهذا الحرف إذا كان بمعنى الإمالة .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال في الكلام تقديم وتأخير ، والتقدير : فخذ إليك أربعة من الطير فصرهن ؟ .

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : التزام التقديم والتأخير من غير دليل ملجئ إلى التزامه خلاف الظاهر .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالث : أن الضمير في قوله : ( ثم ادعهن ) عائد إليها لا إلى أجزائها ، وإذا كانت الأجزاء متفرقة متفاصلة وكان الموضوع على كل جبل بعض تلك الأجزاء يلزم أن يكون الضمير عائدا إلى تلك الأجزاء لا إليها ، وهو خلاف الظاهر ، وأيضا الضمير في قوله : ( يأتينك سعيا ) عائد إليها لا إلى أجزائها ، وعلى قولكم إذا سعى بعض الأجزاء إلى بعض كان الضمير في ( يأتينك ) عائدا إلى أجزائها لا إليها . واحتج القائلون بالقول المشهور بوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن كل المفسرين الذين كانوا قبل أبي مسلم أجمعوا على أنه حصل ذبح تلك الطيور وتقطيع أجزائها ، فيكون إنكار ذلك إنكارا للإجماع .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن ما ذكره غير مختص بإبراهيم صلى الله عليه وسلم ، فلا يكون له فيه مزية على الغير .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالث : أن إبراهيم أراد أن يريه الله كيف يحيي الموتى ، وظاهر الآية يدل على أنه أجيب إلى ذلك ، وعلى قول أبي مسلم لا تحصل الإجابة في الحقيقة .

                                                                                                                                                                                                                                            والرابع : أن قوله : ( ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ) يدل [ ص: 38 ] على أن تلك الطيور جعلت جزءا جزءا ، قال أبو مسلم في الجواب عن هذا الوجه : أنه أضاف الجزء إلى الأربعة فيجب أن يكون المراد بالجزء هو الواحد من تلك الأربعة .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب : أن ما ذكرته وإن كان محتملا إلا أن حمل الجزء على ما ذكرناه أظهر ، والتقدير : فاجعل على كل جبل من كل واحد منهن جزءا أو بعضا .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية