الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( فمن جاءه موعظة من ربه ) فاعلم أنه ذكر فعل الموعظة لأن تأنيثها غير حقيقي ولأنها في معنى الوعظ ، وقرأ أبي والحسن " فمن جاءته موعظة " ثم قال : ( فانتهى ) أي : فامتنع ، ثم قال : ( فله ما سلف ) وفيه مسألتان : [ ص: 82 ] المسألة الأولى : في التأويل وجهان : الأول : قال الزجاج : أي : صفح له عما مضى من ذنبه من قبل نزول هذه الآية ، وهو كقوله ( قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ) [ الأنفال : 38] وهذا التأويل ضعيف ؛ لأنه قبل نزول الآية في التحريم لم يكن ذلك حراما ولا ذنبا ، فكيف يقال المراد من الآية الصفح عن ذلك الذنب مع أنه ما كان هناك ذنب ؟ والنهي المتأخر لا يؤثر في الفعل المتقدم ولأنه تعالى أضاف ذلك إليه بلام التمليك ، وهو قوله : ( فله ما سلف ) فكيف يكون ذلك ذنبا . الثاني : قال السدي : له ما سلف أي : له ما أكل من الربا ، وليس عليه رد ما سلف ، فأما من لم يقض بعد فلا يجوز له أخذه ، وإنما له رأس ماله فقط كما بينه بعد ذلك بقوله ( وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم ) [ البقرة : 279].

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قال الواحدي : السلف المتقدم ، وكل شيء قدمته أمامك فهو سلف ، ومنه الأمة السالفة ، والسالفة العنق لتقدمه في جهة العلو ، والسلفة ما يقدم قبل الطعام ، وسلافة الخمر صفوتها ؛ لأنه أول ما يخرج من عصيرها .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله تعالى : ( وأمره إلى الله ) ففيه وجوه للمفسرين ، إلا أن الذي أقوله : إن هذه الآية مختصة بمن ترك استحلال الربا من غير بيان أنه ترك أكل الربا ، أو لم يترك ، والدليل عليه مقدمة الآية ومؤخرتها .

                                                                                                                                                                                                                                            أما مقدمة الآية فلأن قوله : ( فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى ) ليس فيه بيان أنه انتهى عماذا فلا بد وأن يصرف ذلك المذكور إلى السابق ، وأقرب المذكورات في هذه الكلمة ما حكى الله أنهم قالوا : إنما البيع مثل الربا ، فكان قوله : ( فانتهى ) عائدا إليه ، فكان المعنى : فانتهى عن هذا القول .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما مؤخرة الآية فقوله ( ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) ومعناه : [ من ] عاد إلى الكلام المتقدم ، وهو استحلال الربا ( وأمره إلى الله ) ثم هذا الإنسان إما أن يقال : إنه كما انتهى عن استحلال الربا انتهى أيضا عن أكل الربا ، أو ليس كذلك ، فإن كان الأول كان هذا الشخص مقرا بدين الله عالما بتكليف الله ، فحينئذ يستحق المدح والتعظيم والإكرام ، لكن قوله : ( وأمره إلى الله ) ليس كذلك لأنه يفيد أنه تعالى إن شاء عذبه وإن شاء غفر له ، فثبت أن هذه الآية لا تليق بالكافر ولا بالمؤمن المطيع ، فلم يبق إلا أن يكون مختصا بمن أقر بحرمة الربا ثم أكل الربا فههنا أمره لله إن شاء عذبه وإن شاء غفر له ، وهو كقوله ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) [ النساء : 48 ] فيكون ذلك دليلا ظاهرا على صحة قولنا أن العفو من الله مرجو .

                                                                                                                                                                                                                                            أما قوله : ( ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) فالمعنى : ومن عاد إلى استحلال الربا حتى يصير كافرا .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن قوله : ( فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) دليل قاطع في أن الخلود لا يكون إلا للكافر لأن قوله : ( أولئك أصحاب النار ) يفيد الحصر فيمن عاد إلى قول الكافر ، وكذلك قوله : ( هم فيها خالدون ) يفيد الحصر ، وهذا يدل على أن كونه صاحب النار ، وكونه خالدا في النار لا يحصل إلا في الكفار أقصى ما في الباب أنا خالفنا هذا الظاهر وأدخلنا سائر الكفار فيه ، لكنه يبقى على ظاهره في صاحب الكبيرة فتأمل في هذه المواضع ، وذلك أن مذهبنا أن صاحب الكبيرة إذا كان مؤمنا بالله ورسوله يجوز في حقه أن يعفو الله عنه ، ويجوز أن يعاقبه الله ، وأمره في البابين موكل إلى الله ، ثم بتقدير أن يعاقبه الله فإنه لا يخلد في النار بل [ ص: 83 ] يخرجه منها ، والله تعالى بين صحة هذا المذهب في هذه الآيات بقوله ( وأمره إلى الله ) على جواز العفو في حق صاحب الكبيرة على ما بيناه .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قوله : ( فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) يدل على أن بتقدير أن يدخله الله النار لكنه لا يخلده فيها لأن الخلود مختص بالكفار لا بأهل الإيمان ، وهذا بيان شريف وتفسير حسن .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية