الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ) وفيه مسألتان :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : قال النحويون " كان " كلمة تستعمل على وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن تكون بمنزلة حدث ووقع ، وذلك في قوله : قد كان الأمر ، أي وجد ، وحينئذ لا يحتاج إلى خبر .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن يخلع منه معنى الحدث ، فتبقى الكلمة مجردة للزمان ، وحينئذ يحتاج إلى الخبر ، وذلك كقوله : كان زيد ذاهبا .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أني حين كنت مقيما بخوارزم ، وكان هناك جمع من أكابر الأدباء ، أوردت عليهم إشكالا في هذا الباب ، فقلت : إنكم تقولون إن " كان " إذا كانت ناقصة إنها تكون فعلا وهذا محال ؛ لأن الفعل ما دل على اقتران حدث بزمان ، فقولك " كان " يدل على حصول معنى الكون في الزمان الماضي ، وإذا أفاد هذا المعنى كانت تامة لا ناقصة ، فهذا الدليل يقتضي أنها إن كانت فعلا كانت تامة لا ناقصة ، وإن لم تكن تامة لم تكن فعلا البتة بل كانت حرفا ، وأنتم تنكرون ذلك ، فبقوا في هذا الإشكال زمانا طويلا ، وصنفوا في الجواب عنه كتبا ، وما أفلحوا فيه ثم انكشف لي فيه سر أذكره ههنا وهو أن كان لا معنى له إلا حدث ووقع ووجد ، إلا أن قولك وجد وحدث على قسمين : أحدهما : أن يكون المعنى : وجد وحدث الشيء كقولك : وجد الجوهر وحدث العرض . والثاني : أن يكون المعنى : وجد وحدث موصوفية الشيء بالشيء ، فإذا قلت : كان زيد عالما فمعناه حدث في الزمان الماضي موصوفية زيد بالعلم ، والقسم الأول هو المسمى بكان التامة ، والقسم الثاني هو المسمى بالناقصة ، وفي الحقيقة فالمفهوم من " كان " في الموضعين هو الحدوث والوقوع ، إلا أن في القسم الأول المراد حدوث الشيء في نفسه ، فلا جرم كان الاسم الواحد كافيا ، والمراد في القسم الثاني حدوث موصوفية أحد الأمرين بالآخر ، فلا جرم لم يكن الاسم الواحد كافيا ، بل لا بد فيه من ذكر الاسمين [ ص: 89 ] حتى يمكنه أن يشير إلى موصوفية أحدهما بالآخر ، وهذا من لطائف الأبحاث ، فأما إن قلنا إنه فعل كان دالا على وقوع المصدر في الزمان الماضي ، فحينئذ تكون تامة لا ناقصة ، وإن قلنا : إنه ليس بفعل بل حرف فكيف يدخل فيه الماضي والمستقبل والأمر ، وجميع خواص الأفعال ؟ وإذا حمل الأمر على ما قلناه تبين أنه فعل وزال الإشكال بالكلية .

                                                                                                                                                                                                                                            المفهوم الثالث لكان : يكون بمعنى صار ، وأنشدوا :


                                                                                                                                                                                                                                            بتيهاء قفر والمطي كأنها قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها

                                                                                                                                                                                                                                            وعندي أن هذا اللفظ ههنا محمول على ما ذكرناه ، فإن معنى صار أنه حدث موصوفية الذات بهذه الصفة بعد أنها ما كانت موصوفة بذلك ، فيكون هنا بمعنى حدث ووقع ، إلا أنه حدوث مخصوص ، وهو أنه حدث موصوفية الذات بهذه الصفة بعد أن كان الحاصل موصوفية الذات بصفة أخرى .

                                                                                                                                                                                                                                            المفهوم الرابع : أن تكون زائدة وأنشدوا :


                                                                                                                                                                                                                                            سراة بني أبي بكر تساموا     على كان المسومة الجياد

                                                                                                                                                                                                                                            إذا عرفت هذه القاعدة فلنرجع إلى التفسير فنقول : في ( كان ) في هذه الآية وجهان : الأول : أنها بمعنى وقع وحدث ، والمعنى : وإن وجد ذو عسرة ، ونظيره قوله : ( إلا أن تكون تجارة حاضرة ) [ البقرة : 282 ] بالرفع على معنى : وإن وقعت تجارة حاضرة ، ومقصود الآية إنما يصح على هذا اللفظ وذلك ؛ لأنه لو قيل : وإن كان ذا عسرة لكان المعنى : وإن كان المشتري ذا عسرة فنظرة ، فتكون النظرة مقصورة عليه ، وليس الأمر كذلك ؛ لأن المشتري وغيره إذا كان ذا عسرة فله النظرة إلى الميسرة ، الثاني : أنها ناقصة على حذف الخبر ، تقديره وإن كان ذو عسرة غريما لكم ، وقرأ عثمان ( ذا عسرة ) والتقدير : إن كان الغريم ذا عسرة ، وقرئ " ومن كان ذا عسرة " .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : العسرة اسم من الإعسار ، وهو تعذر الموجود من المال ؛ يقال : أعسر الرجل ، إذا صار إلى حالة العسرة ، وهي الحالة التي يتعسر فيها وجود المال .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية