الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال الله تعالى : ( وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ) .

                                                                                                                                                                                                                                            وفي الآية مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : الكلام في نظم هذه الآية من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : وهو أن كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته ، والخير لأجل العمل به ، واستكمال القوة النظرية بالعلم ، واستكمال القوة العملية بفعل الخيرات ، والقوة النظرية أشرف من القوة العملية ، والقرآن مملوء من ذكرهما بشرط أن تكون القوة النظرية مقدمة على العملية قال عن إبراهيم ( رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين ) [ الشعراء : 83 ] فالحكم كمال القوة النظرية ( وألحقني بالصالحين ) كمال القوة العملية ، وقد أطنبنا في شواهد هذا المعنى من القرآن فيما تقدم من هذا الكتاب .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 118 ] إذا عرفت هذا فنقول : الأمر في هذه الآية أيضا كذلك ، فقوله : ( كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله ) إشارة إلى استكمال القوة النظرية بهذه المعارف الشريفة ، وقوله ( وقالوا سمعنا وأطعنا ) إشارة إلى استكمال القوة العملية الإنسانية بهذه الأعمال الفاضلة الكاملة ، ومن وقف على هذه النكتة علم اشتمال القرآن على أسرار عجيبة غفل عنها الأكثرون .

                                                                                                                                                                                                                                            والوجه الثاني : من النظم في هذه الآية أن للإنسان أياما ثلاثة :

                                                                                                                                                                                                                                            الأمس والبحث عنه يسمى بمعرفة المبدأ ، واليوم الحاضر والبحث عنه يسمى بعلم الوسط ، والغد والبحث عنه يسمى بعلم المعاد . والقرآن مشتمل على رعاية هذه المراتب الثلاثة قال في آخر سورة هود ( ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله ) [ هود : 123 ] وذلك إشارة إلى معرفة المبدأ ولما كانت الكمالات الحقيقية ليست إلا العلم والقدرة ، لا جرم ذكرها في هذه الآية ، وقوله ( ولله غيب السماوات والأرض ) إشارة إلى كمال العلم ، وقوله ( وإليه يرجع الأمر كله ) إشارة إلى كمال القدرة ، فهذا هو الإشارة إلى علم المبدأ ، وأما علم الوسط وهو علم ما يجب اليوم أن يشتغل به ، فله أيضا مرتبتان :

                                                                                                                                                                                                                                            البداية والنهاية ، أما البداية فالاشتغال بالعبودية ، وأما النهاية فقطع النظر عن الأسباب ، وتفويض الأمور كلها إلى مسبب الأسباب ، وذلك هو المسمى بالتوكل ، فذكر هذين المقامين ، فقال : ( فاعبده وتوكل عليه ) [ هود : 123 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما علم المعاد فهو قوله : ( وما ربك بغافل عما يعملون ) [ الأنعام : 132 ] أي فيومك غدا سيصل فيه نتائج أعمالك إليك ، فقد اشتملت هذه الآية على كمال ما يبحث عنه في هذه المراتب الثلاثة ، ونظيرها أيضا قوله سبحانه وتعالى : ( سبحان ربك رب العزة عما يصفون ) [ الصافات : 180 ] وهو إشارة إلى علم المبدأ ، ثم قال : ( وسلام على المرسلين ) [ الصافات : 181 ] وهو إشارة إلى علم الوسط ، ثم قال : ( والحمد لله رب العالمين ) [ الصافات : 182 ] وهو إشارة إلى علم المعاد على ما قال في صفة أهل الجنة ( دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام ) [ يونس : 100 ].

                                                                                                                                                                                                                                            إذا عرفت هذا فنقول : تعريف هذه المراتب الثلاثة مذكور في آخر سورة البقرة ، فقوله : ( آمن الرسول ) إلى قوله : ( لا نفرق بين أحد من رسله ) إشارة إلى معرفة المبدأ ، وقوله ( وقالوا سمعنا وأطعنا ) إشارة إلى علم الوسط ، وهو معرفة الأحوال التي يجب أن يكون الإنسان عالما مشتغلا بها ، ما دام يكون في هذه الحياة الدنيا ، وقوله ( غفرانك ربنا وإليك المصير ) إشارة إلى علم المعاد ، والوقوف على هذه الأسرار ينور القلب ويجذبه من ضيق عالم الأجسام إلى فسحة عالم الأفلاك ، وأنوار بهجة السماوات .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثالث في النظم : أن المطالب قسمان أحدهما : البحث عن حقائق الموجودات . والثاني : البحث عن أحكام الأفعال في الوجوب والجواز والحظر . أما القسم الأول فمستفاد من العقل ، والثاني مستفاد من السمع , والقسم الأول هو المراد بقوله ( والمؤمنون كل آمن بالله ) والقسم الثاني هو المراد بقوله ( وقالوا سمعنا وأطعنا ) .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قال الواحدي رحمه الله قوله : ( سمعنا وأطعنا ) أي سمعنا قوله وأطعنا أمره ، إلا أنه حذف المفعول ، لأن في الكلام دليلا عليه من حيث مدحوا به .

                                                                                                                                                                                                                                            وأقول : هذا من الباب الذي ذكره عبد القاهر النحوي رحمه الله أن حذف المفعول فيه ظاهرا وتقديرا أولى لأنك إذا جعلت التقدير : سمعنا قوله ، وأطعنا أمره ، فإذن ههنا قول آخر غير قوله ، وأمر آخر يطاع سوى [ ص: 119 ] أمره ، فإذا لم يقدر فيه ذلك المفعول أفاد أنه ليس في الوجود قول يجب سمعه إلا قوله وليس في الوجود أمر يقال في مقابلته أطعنا إلا أمره ، فكان حذف المفعول صورة ومعنى في هذا الموضع أولى .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : اعلم أنه تعالى لما وصف إيمان هؤلاء المؤمنين وصفهم بعد ذلك بأنهم يقولون : سمعنا وأطعنا ، فقوله : ( سمعنا ) ليس المراد منه السماع الظاهر ؛ لأن ذلك لا يفيد المدح ، بل المراد أنا سمعناه بآذان عقولنا ، أي عقلناه وعلمنا صحته ، وتيقنا أن كل تكليف ورد على لسان الملائكة والأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلينا فهو حق صحيح واجب القبول , والسمع بمعنى القبول والفهم وارد في القرآن ، قال الله تعالى : ( إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ) [ ق : 37 ] والمعنى : لمن سمع الذكرى بفهم حاضر ، وعكسه قوله تعالى : ( كأن لم يسمعها كأن في أذنيه وقرا ) [ لقمان : 7 ] ثم قال بعد ذلك ( وأطعنا ) فدل هذا على أنه كما صح اعتقادهم في هذه التكاليف فهم ما أخلوا بشيء منها فجمع الله تعالى بهذين اللفظين كل ما يتعلق بأبواب التكليف علما وعملا .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية