الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم اعلم أنه تعالى حكى عن المؤمنين دعاءهم ، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم قال : " الدعاء مخ العبادة " لأن الداعي يشاهد نفسه في مقام الفقر والحاجة والذلة والمسكنة ويشاهد جلال الله تعالى وكرمه وعزته وعظمته بنعت الاستغناء والتعالي ، وهو المقصود من جميع العبادات والطاعات ، فلهذا السبب ختم هذه السورة الشريفة المشتملة على هذه العلوم العظيمة بالدعاء والتضرع إلى الله , والكلام في حقائق الدعاء ذكرناه في تفسير قوله تعالى : ( وإذا سألك عبادي عني فإني قريب ) [ البقرة : 186 ] فقال : ( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) وفي الآية مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى حكى عن المؤمنين أربعة أنواع من الدعاء ، وذكر في مطلع كل واحد منها قوله : ( ربنا ) إلا في النوع الرابع من الدعاء فإنه حذف هذه الكلمة عنها وهو قوله : ( واعف عنا واغفر لنا ) .

                                                                                                                                                                                                                                            أما النوع الأول فهو قوله : ( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : لا تؤاخذنا أي لا تعاقبنا ، وإنما جاء بلفظ المفاعلة وهو فعل واحد ؛ لأن الناسي قد أمكن من نفسه ، وطرق السبيل إليها بفعله ، فصار من يعاقبه بذنبه كالمعين لنفسه في إيذاء نفسه ، وعندي فيه وجه آخر ، وهو أن الله يأخذ المذنب بالعقوبة ، فالمذنب كأنه يأخذ ربه بالمطالبة بالعفو والكرم ، فإنه لا يجد من يخلصه من عذابه إلا هو ، فلهذا يتمسك العبد عند الخوف منه به ، فلما كان كل واحد منهما يأخذ الآخر عبر عنه بلفظ المؤاخذة .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : في النسيان وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن المراد منه هو النسيان نفسه الذي هو ضد الذكر .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : أليس أن فعل الناسي في محل العفو بحكم دليل العقل حيث لا يجوز تكليف ما لا يطاق وبدليل السمع وهو قوله صلى الله عليه وسلم : " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " فإذا كان النسيان في محل العفو قطعا فما معنى طلب العفو عنه في الدعاء ؟

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب عنه من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن النسيان منه ما يعذر فيه صاحبه ، ومنه ما لا يعذر ألا ترى أن من رأى في ثوبه دما فأخر إزالته إلى أن نسي فصلى وهو على ثوبه عد مقصرا ، إذ كان يلزمه المبادرة إلى إزالته وأما إذا لم يره في ثوبه فإنه يعذر فيه ، ومن رمى صيدا في موضع فأصاب إنسانا فقد يكون بحيث لا يعلم الرامي أنه يصيب ذلك الصيد أو غيره ، فإذا رمى ولم يتحرز كان ملوما أما إذا لم تكن أمارات الغلط ظاهرة ثم رمى وأصاب إنسانا كان ههنا معذورا ، وكذلك الإنسان إذا تغافل عن الدرس والتكرار حتى نسي القرآن يكون [ ص: 126 ] ملوما ، وأما إذا واظب على القراءة ، لكنه بعد ذلك نسي فههنا يكون معذورا ، فثبت أن النسيان على قسمين : منه ما يكون معذورا ، ومنه ما لا يكون معذورا ، وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يذكر حاجته شد خيطا في أصبعه . فثبت بما ذكرنا أن الناسي قد لا يكون معذورا ، وذلك ما إذا ترك التحفظ وأعرض عن أسباب التذكر ، وإذا كان كذلك صح طلب غفرانه بالدعاء .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني في الجواب : أن يكون هذا دعاء على سبيل التقدير وذلك لأن هؤلاء المؤمنين الذين ذكروا هذا الدعاء كانوا متقين لله حق تقاته ، فما كان يصدر عنهم ما لا ينبغي إلا على وجه النسيان والخطأ ، فكان وصفهم بالدعاء بذلك إشعارا ببراءة ساحتهم عما يؤاخذون به كأن قيل : إن كان النسيان مما تجوز المؤاخذة به فلا تؤاخذنا به .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثالث في الجواب : أن المقصود من الدعاء إظهار التضرع إلى الله تعالى ، لا طلب الفعل ، ولذلك فإن الداعي كثيرا ما يدعو بما يقطع بأن الله تعالى يفعله سواء دعا أو لم يدع ، قال الله تعالى : ( قال رب احكم ‎بالحق ) [ الأنبياء : 112 ] وقال : ( ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة ) [ آل عمران : 194 ] وقالت الملائكة في دعائهم : ( فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك ) [ غافر : 7 ] فكذا في هذه الآية العلم بأن النسيان مغفور لا يمنع من حسن طلبه في الدعاء .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الرابع في الجواب : أن مؤاخذة الناسي غير ممتنعة عقلا ، وذلك لأن الإنسان إذا علم أنه بعد النسيان يكون مؤاخذا فإنه بخوف المؤاخذة يستديم الذكر ، فحينئذ لا يصدر عنه إلا أن استدامة ذلك التذكر فعل شاق على النفس ، فلما كان ذلك جائزا في العقول ، لا جرم حسن طلب المغفرة منه بالدعاء .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الخامس : أن أصحابنا الذين يجوزون تكليف ما لا يطاق يتمسكون بهذه الآية فقالوا : الناسي غير قادر على الاحتراز عن الفعل ، فلولا أنه جائز عقلا من الله تعالى أن يعاقب عليه لما طلب بالدعاء ترك المؤاخذة عليه .

                                                                                                                                                                                                                                            والقول الثاني : في تفسير النسيان ، أن يحمل على الترك ، قال الله تعالى : ( فنسي ولم نجد له عزما ) [ طه : 115 ] ، وقال تعالى : ( نسوا الله فنسيهم ) [ التوبة : 67 ] أي تركوا العمل لله فتركهم ، ويقول الرجل لصاحبه : لا تنسني من عطيتك ، أي لا تتركني ، فالمراد بهذا النسيان أن يترك الفعل لتأويل فاسد ، والمراد بالخطأ ، أن يفعل الفعل لتأويل فاسد .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : علم أن النسيان والخطأ المذكورين في هذه الآية إما أن يكونا مفسرين بتفسير ينبغي فيه القصد إلى فعل ما لا ينبغي ، أو يكون أحدهما كذلك دون الآخر ، فأما الاحتمال الأول فإنه يدل على حصول العفو لأصحاب الكبائر ؛ لأن العمد إلى المعصية لما كان حاصلا في النسيان وفي الخطأ ثم إنه تعالى أمر المسلمين أن يدعوه بقولهم : ( لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) فكان ذلك أمرا من الله تعالى لهم بأن يطلبوا من الله أن لا يعذبهم على المعاصي ، ولما أمرهم بطلب ذلك ، دل على أنه يعطيهم هذا المطلوب ، وذلك يدل على حصول العفو لأصحاب الكبائر .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما القسم الثاني والثالث فباطلان ؛ لأن المؤاخذة على ذلك قبيحة عند الخصم ، وما يقبح فعله من الله يمتنع أن يطلب بالدعاء .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 127 ] فإن قيل : الناسي قد يؤاخذ في ترك التحفظ قصدا وعمدا على ما قررتم في المسألة المتقدمة .

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : فهو في الحقيقة مؤاخذ بترك التحفظ قصدا وعمدا ، فالمؤاخذة إنما حصلت على ما تركه عمدا ، وظاهر ما ذكرنا دلالة هذه الآية على رجاء العفو لأهل الكبائر.

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية