الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار ) .

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى ( الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين والمستغفرين بالأسحار ) .

                                                                                                                                                                                                                                            وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : ( الصابرين ) قيل نصب على المدح بتقدير : أعني الصابرين ، وقيل : الصابرين في موضع جر على البدل من الذين .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : اعلم أنه تعالى ذكر هاهنا صفات خمسة :

                                                                                                                                                                                                                                            الصفة الأولى : كونهم صابرين ، والمراد كونهم صابرين في أداء الواجبات والمندوبات وفي ترك المحظورات ، وكونهم صابرين في كل ما ينزل بهم من المحن والشدائد ، وذلك بأن لا يجزعوا بل يكونوا راضين في قلوبهم عن الله تعالى ، كما قال : ( الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون ) [ البقرة : 156 ] قال سفيان بن عيينة في قوله ( وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا ) [ السجدة : 24 ] إن هذه الآية تدل على أنهم إنما استحقوا تلك الدرجات العالية من الله تعالى بسبب الصبر ، ويروى أنه وقف رجل على الشبلي ، فقال : أي صبر أشد على الصابرين ؟ فقال : الصبر في الله تعالى ، فقال لا ، فقال : الصبر لله تعالى ، فقال لا ، فقال : الصبر مع الله تعالى ، قال لا ، قال فأيش ؟ قال : الصبر عن الله تعالى ، فصرخ الشبلي صرخة كادت روحه تتلف .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 176 ] وقد كثر مدح الله تعالى للصابرين ، فقال : ( والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس ) [ البقرة : 177 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            الصفة الثانية : كونهم صادقين ، اعلم أن لفظ الصدق قد يجري على القول والفعل والنية ، فالصدق في القول مشهور ، وهو مجانبة الكذب ، والصدق في الفعل الإتيان به وترك الانصراف عنه قبل تمامه ، يقال : صدق فلان في القتال وصدق في الجملة ، ويقال في ضده : كذب في القتال ، وكذب في الجملة ، والصدق في النية إمضاء العزم والإقامة عليه حتى يبلغ الفعل .

                                                                                                                                                                                                                                            الصفة الثالثة : كونهم قانتين ، وقد فسرناه في قوله تعالى : ( وقوموا لله قانتين ) [ البقرة : 238 ] وبالجملة فهو عبارة عن الدوام على العبادة والمواظبة عليها .

                                                                                                                                                                                                                                            الصفة الرابعة : كونهم منفقين ويدخل فيه إنفاق المرء على نفسه وأهله وأقاربه وصلة رحمه وفي الزكاة والجهاد وسائر وجوه البر .

                                                                                                                                                                                                                                            الصفة الخامسة : كونهم مستغفرين بالأسحار ، والسحر الوقت الذي قبل طلوع الفجر ، وتسحر إذا أكل في ذلك الوقت ، واعلم أن المراد منه من يصلي بالليل ثم يتبعه بالاستغفار والدعاء لأن الإنسان لا يشتغل بالدعاء والاستغفار إلا أن يكون قد صلى قبل ذلك فقوله ( والمستغفرين بالأسحار ) يدل على أنهم كانوا قد صلوا بالليل . واعلم أن الاستغفار بالسحر له مزيد أثر في قوة الإيمان وفي كمال العبودية من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن في وقت السحر يطلع نور الصبح بعد أن كانت الظلمة شاملة للكل ، وبسبب طلوع نور الصبح كأن الأموات يصيرون أحياء ، فهناك وقت الجود العام والفيض التام ، فلا يبعد أن يكون عند طلوع صبح العالم الكبير يطلع صبح العالم الصغير ، وهو ظهور نور جلال الله تعالى في القلب .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن وقت السحر أطيب أوقات النوم ، فإذا أعرض العبد عن تلك اللذة ، وأقبل على العبودية ، كانت الطاعة أكمل . والثالث : نقل عن ابن عباس ( والمستغفرين بالأسحار ) يريد المصلين صلاة الصبح .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : قوله ( الصابرين والصادقين ) أكمل من قوله : الذين يصبرون ويصدقون ، لأن قوله ( الصابرين ) يدل على أن هذا المعنى عادتهم وخلقهم ، وأنهم لا ينفكون عنها .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية