الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار ) .

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أنه تعالى لما ذكر دلائل الإلهية والقدرة والحكمة وهو ما يتصل بتقرير الربوبية ذكر بعدها ما يتصل بالعبودية ، وأصناف العبودية ثلاثة أقسام : التصديق بالقلب ، والإقرار باللسان ، والعمل بالجوارح ، فقوله تعالى : ( يذكرون الله ) إشارة إلى عبودية اللسان ، وقوله : ( قياما وقعودا وعلى جنوبهم ) إشارة إلى عبودية الجوارح والأعضاء ، وقوله : ( ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ) إشارة إلى عبودية القلب والفكر والروح ، والإنسان ليس إلا هذا المجموع ، فإذا كان اللسان مستغرقا في الذكر ، والأركان في الشكر ، والجنان في الفكر ، كان هذا العبد مستغرقا بجميع أجزائه في العبودية ، فالآية الأولى دالة على كمال الربوبية ، وهذه الآية دالة على كمال العبودية ، فما أحسن هذا الترتيب في جذب الأرواح من الخلق إلى الحق ، وفي نقل الأسرار من جانب عالم الغرور إلى جناب الملك الغفور ، ونقول : في الآية مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : للمفسرين في هذه الآية قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن يكون المراد منه كون الإنسان دائم الذكر لربه ، فإن الأحوال ليست إلا هذه الثلاثة ، ثم لما وصفهم بكونهم ذاكرين فيها كان ذلك دليلا على كونهم مواظبين على الذكر غير فاترين عنه البتة .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 111 ] والقول الثاني : إن المراد من الذكر الصلاة ، والمعنى أنهم يصلون في حال القيام ، فإن عجزوا ففي حال القعود ، فإن عجزوا ففي حال الاضطجاع ، والمعنى أنهم لا يتركون الصلاة في شيء من الأحوال . والحمل على الأول أولى لأن الآيات الكثيرة ناطقة بفضيلة الذكر ، وقال عليه الصلاة والسلام : " من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله " .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : يحتمل أن يكون المراد بهذا الذكر هو الذكر باللسان ، وأن يكون المراد منه الذكر بالقلب ، والأكمل أن يكون المراد الجمع بين الأمرين .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : قال الشافعي رضي الله عنه : إذا صلى المريض مضطجعا وجب أن يصلي على جنبه ، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : بل يصلي مستلقيا حتى إذا وجد خفة قعد . وحجة الشافعي رضي الله عنه ظاهر هذه الآية ، وهو أنه تعالى مدح من ذكره على حال الاضطجاع على الجنب ، فكان هذا الوضع أولى .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن فيه دقيقة طبية وهو أنه ثبت في المباحث الطبية أن كون الإنسان مستلقيا على قفاه يمنع من استكمال الفكر والتدبر ، وأما كونه مضطجعا على الجنب فإنه غير مانع منه ، وهذا المقام يراد فيه التدبر والتفكر ، ولأن الاضطجاع على الجنب يمنع من النوم المغرق ، فكان هذا الوضع أولى ، لكونه أقرب إلى اليقظة ، وإلى الاشتغال بالذكر .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : محل " على جنوبهم " نصب على الحال عطفا على ما قبله ، كأنه قيل : قياما وقعودا ومضطجعين .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية