الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : أنه تعالى قال أولا : ( اتقوا ربكم ) ثم قال بعده : ( واتقوا الله ) وفي هذا التكرير وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : تأكيد الأمر والحث عليه كقولك للرجل : اعجل اعجل ، فيكون أبلغ من قولك : اعجل .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أنه أمر بالتقوى في الأول لمكان الإنعام بالخلق وغيره ، وفي الثاني أمر بالتقوى لمكان وقوع التساؤل به فيما يلتمس البعض من البعض .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : قال أولا : ( اتقوا ربكم ) وقال ثانيا : ( واتقوا الله ) والرب لفظ يدل على التربية والإحسان ، والإله لفظ يدل على القهر والهيبة ، فأمرهم بالتقوى بناء على الترغيب ، ثم أعاد الأمر به بناء على الترهيب كما قال : ( يدعون ربهم خوفا وطمعا ) [ السجدة : 16 ] وقال : ( ويدعوننا رغبا ورهبا ) [ الأنبياء : 90 ] كأنه قيل : إنه رباك وأحسن إليك فاتق مخالفته لأنه شديد العقاب عظيم السطوة .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : اعلم أن التساؤل بالله وبالأرحام قيل هو مثل أن يقال : بالله أسألك ، وبالله أشفع إليك ، وبالله أحلف عليك ، إلى غير ذلك مما يؤكد المرء به مراده بمسألة الغير ، ويستعطف ذلك الغير في التماس حقه منه أو نواله ومعونته ونصرته ، وأما قراءة حمزة فهي ظاهرة من حيث المعنى ، والتقدير : واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ؛ لأن العادة جرت في العرب بأن أحدهم قد يستعطف غيره بالرحم فيقول : أسألك بالله والرحم ، وربما أفرد ذلك فقال : أسألك بالرحم ، وكان يكتب المشركون إلى رسول [ ص: 135 ] الله صلى الله عليه وسلم : نناشدك الله والرحم أن لا تبعث إلينا فلانا وفلانا ، وأما القراءة بالنصب فالمعنى يرجع إلى ذلك ، والتقدير : واتقوا الله واتقوا الأرحام ، قال القاضي : وهذا أحد ما يدل على أنه قد يراد باللفظ الواحد المعاني المختلفة ؛ لأن معنى تقوى الله مخالف لمعنى تقوى الأرحام ، فتقوى الله إنما يكون بالتزام طاعته واجتناب معاصيه ، واتقاء الأرحام بأن توصل ولا تقطع فيما يتصل بالبر والإفضال والإحسان ، ويمكن أن يجاب عنه بأنه تعالى لعله تكلم بهذه اللفظة مرتين ، وعلى هذا التقدير يزول الإشكال .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الخامسة : قال بعضهم : اسم الرحم مشتق من الرحمة التي هي النعمة ، واحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يقول الله تعالى : أنا الرحمن وهي الرحم اشتققت اسمها من اسمي " ووجه التشبيه أن لمكان هذه الحالة تقع الرحمة من بعض الناس لبعض . وقال آخرون : بل اسم الرحم مشتق من الرحم الذي عنده يقع الإنعام وأنه الأصل ، وقال بعضهم : بل كل واحد منهما أصل بنفسه ، والنزاع في مثل هذا قريب .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة السادسة : دلت الآية على جواز المسألة بالله تعالى . روى مجاهد عن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من سألكم بالله فأعطوه " وعن البراء بن عازب قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع : منها إبرار القسم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة السابعة : دل قوله تعالى : ( والأرحام ) على تعظيم حق الرحم وتأكيد النهي عن قطعها ، قال تعالى : ( فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم ) [ محمد : 22 ] وقال : ( لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة ) [ التوبة : 10 ] قيل في الأول : إنه القرابة ، وقال : ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ) [ الإسراء : 23 ] وقال : ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين ) [ النساء : 36 ] وعن عبد الرحمن بن عوف : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يقول الله تعالى : أنا الرحمن وهي الرحم اشتققت اسمها من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته " وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من شيء أطيع الله فيه أعجل ثوابا من صلة الرحم ، وما من عمل عصي الله به أعجل عقوبة من البغي واليمين الفاجرة " . وعن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الصدقة وصلة الرحم يزيد الله بهما في العمر ويدفع بهما ميتة السوء ويدفع الله بهما المحذور والمكروه " وقال عليه الصلاة والسلام : " أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح " قيل : الكاشح العدو ، فثبت بدلالة الكتاب والسنة وجوب صلة الرحم واستحقاق الثواب بها ، ثم إن أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنه بنوا على هذا الأصل مسألتين :

                                                                                                                                                                                                                                            إحداهما : أن الرجل إذا ملك ذا رحم محرم عتق عليه ، مثل الأخ والأخت ، والعم والخال ، قال : لأنه لو بقي الملك لحل الاستخدام بالإجماع ، لكن الاستخدام إيحاش يورث قطيعة الرحم ، وذلك حرام بناء على هذا الأصل ، فوجب أن لا يبقى الملك .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيهما : أن الهبة لذي الرحم المحرم لا يجوز الرجوع فيها لأن ذلك الرجوع إيحاش يورث قطيعة الرحم ، فوجب أن لا يجوز ، والكلام في هاتين المسألتين مذكور في الخلافيات .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم إنه تعالى ختم هذه الآية بما يكون كالوعد والوعيد والترغيب والترهيب فقال : ( إن الله كان عليكم رقيبا ) [ النساء : 1 ] والرقيب هو المراقب الذي يحفظ عليك جميع أفعالك . ومن هذا صفته فإنه يجب أن يخاف ويرجى ، فبين تعالى أنه يعلم السر وأخفى ، وأنه إذا كان كذلك يجب أن يكون المرء حذرا خائفا فيما يأتي ويترك .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية