الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : احتج أبو القاسم الكعبي بهذه الآية على القطع بوعيد أصحاب الكبائر ، فقال : قد كشف الله بهذه الآية الشبهة في الوعيد ؛ لأنه تعالى بعد أن قدم ذكر الكبائر ، بين أن من اجتنبها يكفر عنه سيئاته ، وهذا يدل على أنهم إذا لم يجتنبوها فلا تكفر ، ولو جاز أن يغفر تعالى لهم الكبائر والصغائر من غير توبة لم يصح هذا الكلام .

                                                                                                                                                                                                                                            وأجاب أصحابنا عنه من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : إنكم إما أن تستدلوا بهذه الآية من حيث إنه تعالى لما ذكر أن عند اجتناب الكبائر يكفر السيئات ، وجب أن عند عدم اجتناب الكبائر لا يكفرها ؛ لأن تخصيص الشيء بالذكر يدل على نفي الحكم عما عداه ، وهذا باطل ؛ لأن عند المعتزلة هذا الأصل باطل ، وعندنا أنه دلالة ظنية ضعيفة ، وإما أن تستدلوا به من حيث أن المعلق بكلمة " إن " على الشيء عدم عند عدم ذلك الشيء ، وهذا أيضا ضعيف ، ويدل عليه آيات :

                                                                                                                                                                                                                                            إحداها : قوله : ( واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون ) [ البقرة : 172 ] فالشكر واجب سواء عبد الله أو لم يعبد .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : قوله تعالى : ( فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته ) [ البقرة : 283 ] وأداء الأمانة واجب سواء ائتمنه أو لم يفعل ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : ( فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ) [ البقرة : 282 ] والاستشهاد بالرجل والمرأتين جائز سواء حصل الرجلان أو لم يحصلا .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : ( ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة ) [ البقرة : 283 ] والرهن مشروع سواء وجد الكاتب أو لم يوجد .

                                                                                                                                                                                                                                            وخامسها : ( ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا ) [ النور : 33 ] والإكراه على البغاء محرم ، سواء أردن التحصن أو لم يردن .

                                                                                                                                                                                                                                            وسادسها : ( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء ) [ النساء : 3 ] والنكاح جائز سواء حصل ذلك الخوف أو لم يحصل .

                                                                                                                                                                                                                                            وسابعها : ( فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم ) [ النساء : 101 ] والقصر جائز ، سواء حصل الخوف أو لم يحصل .

                                                                                                                                                                                                                                            وثامنها : ( فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك ) [ النساء : 11 ] والثلثان كما أنه حق الثلاثة فهو أيضا حق الثنتين .

                                                                                                                                                                                                                                            وتاسعها : قوله : ( وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله ) ( النساء : 35 ] وذلك جائز سواء حصل الخوف أو لم يحصل .

                                                                                                                                                                                                                                            وعاشرها : قوله : ( إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما ) [ النساء : 35 ] وقد يحصل التوفيق بدون إرادتهما .

                                                                                                                                                                                                                                            والحادي عشر : قوله : ( وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته ) [ النساء : 130 ] وقد يحصل الغنى بدون ذلك التفرق ، وهذا الجنس من الآيات فيه كثرة ، فثبت أن المعلق بكلمة " إن " على الشيء لا يلزم أن يكون عدما عند عدم ذلك الشيء ، والعجب أن مذهب القاضي عبد الجبار في أصول الفقه هو أن المعلق بكلمة " إن " على الشيء لا يكون عدما عند عدم ذلك الشيء ، ثم إنه في التفسير استحسن استدلال الكعبي بهذه الآية ، وذلك يدل على أن حب الإنسان لمذهبه قد يلقيه فيما لا ينبغي .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني من الجواب : قال أبو مسلم الأصفهاني : إن هذه الآية إنما جاءت عقيب الآية التي نهى الله فيها عن نكاح المحرمات ، وعن عضل النساء وأخذ أموال اليتامى وغير ذلك ، فقال تعالى : إن تجتنبوا هذه الكبائر التي نهيناكم عنها كفرنا عنكم ما كان منكم في ارتكابها سالفا . وإذا كان هذا الوجه محتملا ، لم يتعين حمله على ما ذكره المعتزلة . وطعن القاضي في هذا الوجه من وجهين : الأول : أن قوله : ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ) عام ، فقصره على المذكور المتقدم لا يجوز .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : أن قوله : إن باجتنابهم في المستقبل هذه المحرمات يكفر الله ما حصل منها في الماضي كلام بعيد ؛ لأنه لا يخلو حالهم من أمرين اثنين : إما أن يكونوا قد تابوا من كل ما تقدم ، فالتوبة قد أزالت عقاب ذلك لاجتناب هذه الكبائر ، أو لا يكونوا [ ص: 64 ] قد تابوا من كل ما تقدم ، فمن أين أن اجتناب هذه الكبائر يوجب تكفير تلك السيئات ؟ هذا لفظ القاضي في تفسيره .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب عن الأول : أنا لا ندعي القطع بأن قوله : ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ) محمول على ما تقدم ذكره ، لكنا نقول : إنه محتمل ، ومع هذا الاحتمال لا يتعين حمل الآية على ما ذكروه .

                                                                                                                                                                                                                                            وعن الثاني : أن قولك : من أين أن اجتناب هذه الكبائر يوجب تكفير تلك السيئات ؟ سؤال لا استدلال على فساد هذا القسم ، وبهذا القدر لا يبطل هذا الاحتمال ، وإذا حضر هذا الاحتمال بطل ما ذكرتم من الاستدلال ، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثالث : من الجواب عن هذا الاستدلال : هو أنا إذا أعطيناهم جميع مراداتهم لم يكن في الآية زيادة على أن نقول : إن من لم يجتنب الكبائر لم تكفر سيئاته ، وحينئذ تصير هذه الآية عامة في الوعيد ، وعمومات الوعيد ليست قليلة ، فما ذكرناه جوابا عن سائر العمومات كان جوابا عن تمسكهم بهذه الآية ، فلا أعرف لهذه الآية مزيد خاصية في هذا الباب ، وإذا كان كذلك لم يبق لقول الكعبي إن الله قد كشف الشبهة بهذه الآية عن هذه المسألة وجه .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الرابع : أن هذه الكبائر قد يكون فيها ما يكون كبيرا ، بالنسبة إلى شيء ، ويكون صغيرا بالنسبة إلى شيء آخر ، وكذا القول في الصغائر ، إلا أن الذي يحكم بكونه كبيرا على الإطلاق هو الكفر ، وإذا ثبت هذا فلم لا يجوز أن يكون المراد بقوله : ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه ) الكفر ؟ وذلك لأن الكفر أنواع كثيرة : منها الكفر بالله ، وبأنبيائه ، وباليوم الآخر وشرائعه ، فكان المراد أن من اجتنب عن الكفر كان ما وراءه مغفورا ، وهذا الاحتمال منطبق موافق لصريح قوله تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) [ النساء : 48 ] وإذا كان هذا محتملا بل ظاهرا ، سقط استدلالهم بالكلية ، وبالله التوفيق .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : قالت المعتزلة : إن عند اجتناب الكبائر يجب غفران الصغائر ، وعندنا أنه لا يجب عليه شيء ، بل كل ما يفعله فهو فضل وإحسان ، وقد تقدم ذكر دلائل هذه المسألة .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية