الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            التفسير الثامن : أن اشتقاق لفظ " الإله " من أله الرجل يأله إذا فزع من أمر نزل به فألهه أي أجاره ، والمجير لكل الخلائق من كل المضار هو الله سبحانه وتعالى ؛ لقوله تعالى : ( وهو يجير ولا يجار عليه ) [ ص: 136 ] [ المؤمنون : 88 ] ولأنه هو المنعم ؛ لقوله تعالى : ( وما بكم من نعمة فمن الله ) [ النحل : 53 ] ولأنه هو المطعم ؛ لقوله تعالى : ( وهو يطعم ولا يطعم ) [ الأنعام : 14 ] ولأنه هو الموجد ؛ لقوله تعالى : ( قل كل من عند الله ) [ النساء : 78 ] فهو سبحانه وتعالى قهار للعدم بالوجود والتحصيل ، جبار لها بالقوة والفعل والتكميل ، فكان في الحقيقة هو الله ولا شيء سواه .

                                                                                                                                                                                                                                            وهاهنا لطائف وفوائد : الفائدة الأولى : عادة المديون أنه إذا رأى صاحب الدين من البعد فإنه يفر منه ، والله الكريم يقول : عبادي ! أنتم غرمائي بكثرة ذنوبكم ، ولكن لا تفروا مني ، بل أقول : ( ففروا إلى الله ) [ الذاريات : 50 ] فإني أنا الذي أقضي ديونكم وأغفر ذنوبكم ، وأيضا الملوك يغلقون أبوابهم عن الفقراء دون الأغنياء ، وأنا أفعل ضد ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            الفائدة الثانية : قال صلى الله عليه وسلم : إن لله تعالى مائة رحمة ، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والطير والبهائم والهوام ، فبها يتعاطفون ويتراحمون ، وأخر تسعة وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة .

                                                                                                                                                                                                                                            وأقول : إنه صلى الله عليه وسلم إنما ذكر هذا الكلام على سبيل التفهيم ، وإلا فبحار الرحمة غير متناهية ، فكيف يعقل تحديدها بحد معين .

                                                                                                                                                                                                                                            الفائدة الثالثة : قال صلى الله عليه وسلم :

                                                                                                                                                                                                                                            إن الله عز وجل يقول يوم القيامة للمذنبين : هل أحببتم لقائي ؟ فيقولون : نعم يا رب ، فيقول الله تعالى : ولم ؟ فيقولون : رجونا عفوك وفضلك ، فيقول الله تعالى : إني قد أوجبت لكم مغفرتي .

                                                                                                                                                                                                                                            الفائدة الرابعة : قال عبد الله بن عمر : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله عز وجل ينشر على بعض عباده يوم القيامة تسعة وتسعين سجلا ، كل واحد منها مثل مد البصر ، فيقول له : هل تنكر من هذا شيئا ؟ هل ظلمك الكرام الكاتبون ؟ فيقول : لا يا رب ، فيقول الله تعالى : فهل كان لك عذر في عمل هذه الذنوب ؟ فيقول : لا يا رب ، فيضع ذلك العبد قلبه على النار فيقول الله تعالى : إن لك عندي حسنة ، وإنه لا ظلم اليوم ، ثم يخرج بطاقة فيها " أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله " فيقول العبد : يا رب ، كيف تقع هذه البطاقة في مقابلة هذه السجلات ؟ فتوضع البطاقة في كفة والسجلات في كفة أخرى ، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ولا يثقل مع ذكر الله شيء .

                                                                                                                                                                                                                                            الفائدة الخامسة : وقف صبي في بعض الغزوات ينادى عليه في من يزيد في يوم صائف شديد الحر ، فبصرت به امرأة ، فعدت إلى الصبي وأخذته وألصقته إلى بطنها ، ثم ألقت ظهرها على البطحاء ، وأجلسته على بطنها تقيه الحر ، وقالت : ابني ، ابني ، فبكى الناس ، وتركوا ما هم فيه ، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وقف عليهم ، فأخبروه الخبر ، فقال : أعجبتم من رحمة هذه بابنها ؟ فإن الله تعالى أرحم بكم جميعا من هذه المرأة بابنها ، فتفرق المسلمون على أعظم أنواع الفرح والبشارة .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : في كيفية اشتقاق هذه اللفظة بحسب اللغة ، قال بعضهم : هذه اللفظة ليست عربية ، بل عبرانية أو سريانية ، فإنهم يقولون إلها رحمانا ومرحيانا ، فلما عرب جعل " الله الرحمن الرحيم " وهذا بعيد ، ولا يلزم من المشابهة الحاصلة بين اللغتين الطعن في كون هذه اللفظة عربية أصلية ، والدليل عليه قوله تعالى : ( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ) [ لقمان : 25 ] وقال تعالى : [ ص: 137 ] ( هل تعلم له سميا ) [ مريم : 65 ] وأطبقوا على أن المراد منه لفظة " الله " وأما الأكثرون فقد سلموا كونها لفظة عربية ، أما القائلون بأن هذا اللفظ اسم علم لله تعالى فقد تخلصوا عن هذه المباحث ، وأما المنكرون لذلك فلهم قولان : قال الكوفيون : أصل هذه اللفظة إلاه ، فأدخلت الألف واللام عليها للتعظيم ، فصار الإلاه ، فحذفت الهمزة استثقالا ، لكثرة جريانها على الألسنة ، فاجتمع لامان ، فأدغمت الأولى فقالوا : " الله " وقال البصريون أصله لاه ، فألحقوا بها الألف واللام فقيل : " الله " وأنشدوا :


                                                                                                                                                                                                                                            كحلفة من أبي رباح يسمعها لاهه الكبار

                                                                                                                                                                                                                                            فأخرجه على الأصل .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : قال الخليل : أطبق جميع الخلق على أن قولنا " الله " مخصوص بالله سبحانه وتعالى ، وكذلك قولنا الإله مخصوص به سبحانه وتعالى ، وأما الذين كانوا يطلقون اسم الإله على غير الله فإنما كانوا يذكرونه بالإضافة كما يقال : إله كذا ، أو ينكرونه فيقولون : " إله " كما قال الله تعالى خبرا عن قوم موسى : ( اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون ) [ الأعراف : 138 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الخامسة : اعلم أن هذا الاسم مختص بخواص لم توجد في سائر أسماء الله تعالى ، ونحن نشير إليها ( فالخاصة الأولى ) أنك إذا حذفت الألف من قولك : " الله " بقي الباقي على صورة " لله " ، وهو مختص به سبحانه ، كما في قوله : ( ولله جنود السماوات والأرض ) [ الفتح : 4 ] ، ( ولله خزائن السماوات والأرض ) [ المنافقون : 7 ] وإن حذفت عن هذه البقية اللام الأولى بقيت البقية على صورة " له " كما في قوله تعالى : ( له مقاليد السماوات والأرض ) [ الزمر : 63 ] وقوله : ( له الملك وله الحمد ) [ التغابن : 1 ] فإن حذفت اللام الباقية كانت البقية هي قولنا " هو " وهو أيضا يدل عليه سبحانه كما في قوله : ( قل هو الله أحد ) [ الإخلاص : 1 ] وقوله : ( هو الحي لا إله إلا هو ) [ غافر : 65 ] والواو زائدة ، بدليل سقوطها في التثنية والجمع ؛ فإنك تقول : هما ، هم ، فلا تبقي الواو فيهما ، فهذه الخاصية موجودة في لفظ " الله " غير موجودة في سائر الأسماء ، وكما حصلت هذه الخاصية بحسب اللفظ فقد حصلت أيضا بحسب المعنى ، فإنك إذا دعوت الله بالرحمن فقد وصفته بالرحمة وما وصفته بالقهر ، وإذا دعوته بالعليم فقد وصفته بالعلم وما وصفته بالقدرة ، وأما إذا قلت يا الله فقد وصفته بجميع الصفات ؛ لأن الإله لا يكون إلها إلا إذا كان موصوفا بجميع هذه الصفات ، فثبت أن قولنا : الله ، قد حصلت له هذه الخاصية التي لم تحصل لسائر الأسماء .

                                                                                                                                                                                                                                            الخاصية الثانية : أن كلمة الشهادة وهي الكلمة التي بسببها ينتقل الكافر من الكفر إلى الإسلام ، لم يحصل فيها إلا هذا الاسم ، فلو أن الكافر قال : أشهد أن لا إله إلا الرحمن أو إلا الرحيم أو إلا الملك أو إلا القدوس - لم يخرج من الكفر ولم يدخل في الإسلام ، أما إذا قال أشهد أن لا إله إلا الله فإنه يخرج من الكفر ويدخل في الإسلام ، وذلك يدل على اختصاص هذا الاسم بهذه الخاصية الشريفة ، والله الهادي إلى الصواب .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية