الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنه تعالى بين في هذه الآية أن وجوب الصلاة مقدر بأوقات مخصوصة ، إلا أنه تعالى أجمل ذكر الأوقات ههنا وبينها في سائر الآيات ، وهي خمسة :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : قوله تعالى : ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ) [البقرة : 238] . فقوله : ( الصلوات ) يدل على وجوب صلوات ثلاثة ، وقوله ( والصلاة الوسطى ) يمنع أن يكون أحد تلك الثلاثة وإلا لزم التكرار ، فلا بد وأن تكون زائدة على الثلاثة ، ولا يجوز أن يكون الواجب أربعة ، وإلا لم يحصل فيها وسطى ، فلا بد من جعلها خمسة لتحصل الوسطى ، وكما دلت هذه الآية على وجوب خمس صلوات دلت على عدم وجوب الوتر ، وإلا لصارت الصلوات الواجبة ستة ، فحينئذ لا تحصل الوسطى ، فهذه الآية دلت على أن الواجب خمس صلوات ، إلا أنها غير دالة على بيان أوقاتها .

                                                                                                                                                                                                                                            وثانيها : قوله [ ص: 24 ] تعالى : ( أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر ) [الإسراء : 78] . فالواجب من الدلوك إلى الغسق هو الظهر والعصر ، والواجب من الغسق إلى الفجر هو المغرب والعشاء والواجب في الفجر هو صلاة الصبح ، وهذه الآية توهم أن للظهر والعصر وقتا واحدا ، وللمغرب والعشاء وقتا واحدا .

                                                                                                                                                                                                                                            وثالثها : قوله سبحانه : ( فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون ) [الروم : 17] . والمراد منه الصلاتان الواقعتان في طرفي النهار ، وهما المغرب والصبح ، ثم قال : ( وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون ) [الروم : 18] . فقوله : ( وعشيا ) المراد منه الصلاة الواقعة في محض الليل وهي صلاة العشاء ، وقوله : ( وحين تظهرون ) المراد الصلاة الواقعة في محض النهار ، وهي صلاة الظهر ، كما قدم في قوله : ( حين تمسون وحين تصبحون ) [الروم : 17] صلاة الليل على صلاة النهار في الذكر ، فكذلك قدم في قوله : ( وعشيا وحين تظهرون ) صلاة الليل على صلاة النهار في الذكر ، فصارت الصلوات الأربعة مذكورة في هذه الآية ، وأما صلاة العصر فقد أفردها الله تعالى بالذكر في قوله : ( والعصر ) [ العصر : 1 ] . تشريفا لها بالإفراد بالذكر .

                                                                                                                                                                                                                                            ورابعها : قوله تعالى : ( وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل ) [هود : 114] . فقوله : ( طرفي النهار ) يفيد وجوب صلاة الصبح ، ووجوب صلاة العصر ؛ لأنهما كالواقعتين على الطرفين ، وإن كانت صلاة الصبح واقعة قبل حدوث الطرف الأول ، وصلاة العصر واقعة قبل حدوث الطرف الثاني .

                                                                                                                                                                                                                                            وقوله : ( وزلفا من الليل ) يفيد وجوب المغرب والعشاء ، وكان بعضهم يستدل بهذه الآية على وجوب الوتر قال : لأن الزلف جمع ، وأقله ثلاثة ، فلا بد وأن يجب ثلاث صلوات في الليل عملا بقوله : ( وزلفا من الليل ) .

                                                                                                                                                                                                                                            وخامسها : قوله تعالى : ( وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن آناء الليل فسبح ) [طـه : 130 ] . فقوله : ( قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ) [طه : 130] إشارة إلى الصبح والعصر ، وهو كقوله : ( وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل ) ، وقوله : ( ومن آناء الليل ) إشارة إلى المغرب والعشاء ، وهو كقوله : ( وزلفا من الليل ) ، وكما احتجوا بقوله : ( وزلفا من الليل ) فكذلك احتجوا عليه بقوله : ( ومن آناء الليل ) ؛ لأن قوله : ( آناء الليل ) جمع وأقله ثلاثة ، فهذا مجموع الآيات الدالة على الأوقات الخمسة للصلوات الخمس .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن تقدير الصلوات بهذه الأوقات الخمسة في نهاية الحسن والجمال نظرا إلى المعقول ، وبيانه أن لكل شيء من أحوال هذا العالم مراتب خمسة :

                                                                                                                                                                                                                                            أولها : مرتبة الحدوث والدخول في الوجود ، وهو كما يولد الإنسان ، ويبقى في النشوء والنماء إلى مدة معلومة ، وهذه المدة تسمى سن النشوء والنماء .

                                                                                                                                                                                                                                            والمرتبة الثانية : مدة الوقوف ، وهو أن يبقى ذلك الشيء على صفة كماله من غير زيادة ولا نقصان ، وهذه المدة تسمى سن الشباب .

                                                                                                                                                                                                                                            والمرتبة الثالثة : مدة الكهولة ، وهو أن يظهر في الإنسان نقصان خفي ، وهذه المدة تسمى سن الكهولة .

                                                                                                                                                                                                                                            والمرتبة الرابعة : مدة الشيخوخة ، وهو أن يظهر في الإنسان نقصانات ظاهرة جلية إلى أن يموت ويهلك ، وتسمى هذه المدة سن الشيخوخة .

                                                                                                                                                                                                                                            المرتبة الخامسة : أن تبقى آثاره بعد موته مدة ، ثم بالآخرة تنمحي تلك الآثار وتبطل وتزول ، ولا يبقى منه في الدنيا خبر ولا أثر ، فهذه المراتب الخمسة حاصلة لجميع حوادث هذا العالم سواء كان إنسانا أو غيره من الحيوانات أو النباتات ، والشمس حصل لها بحسب طلوعها وغروبها هذه الأحوال الخمس ؛ وذلك لأنها [ ص: 25 ] حين تطلع من مشرقها يشبه حالها حال المولود عندما يولد ، ثم لا يزال يزداد ارتفاعها ، ويقوى نورها ، ويشتد حرها إلى أن تبلغ إلى وسط السماء ، فتقف هناك ساعة ، ثم تنحدر ويظهر فيها نقصانات خفية إلى وقت العصر ، ثم من وقت العصر يظهر فيها نقصانات ظاهرة فيضعف ضوؤها ويضعف حرها ، ويزداد انحطاطها وقوتها إلى الغروب ، ثم إذا غربت يبقى بعض آثارها في أفق المغرب وهو الشفق ، ثم تنمحي تلك الآثار ، وتصير الشمس كأنها ما كانت موجودة في العالم ، فلما حصلت هذه الأحوال الخمسة لها وهي أمور عجيبة لا يقدر عليها إلا الله تعالى ، لا جرم أوجب الله تعالى عند كل واحد من هذه الأحوال الخمسة لها صلاة ، فأوجب عند قرب الشمس من الطلوع صلاة الفجر ؛ شكرا للنعمة العظيمة الحاصلة بسبب زوال تلك الظلمة ، وحصول النور ، وبسبب زوال النوم الذي هو كالموت ، وحصول اليقظة التي هي كالحياة ، ولما وصلت الشمس إلى غاية الارتفاع ، ثم ظهر فيها أثر الانحطاط أوجب صلاة الظهر ؛ تعظيما للخالق القادر على قلب أحوال الأجرام العلوية والسفلية من الضد إلى الضد ، فجعل الشمس بعد غاية ارتفاعها واستعلائها منحطة عن ذلك العلو ، وآخذة في سن الكهولة ، وهو النقصان الخفي ، ثم لما انقضت مدة الكهولة ، ودخلت في أول زمان الشيخوخة أوجب تعالى صلاة العصر .

                                                                                                                                                                                                                                            ونعم ما قال الشافعي -رحمه الله- : إن أول العصر هو أن يصير ظل كل شيء مثليه ؛ وذلك لأن من هذا الوقت تظهر النقصانات الظاهرة ، ألا ترى أن من أول وقت الظهر إلى وقت العصر على قول الشافعي -رحمه الله- ما ازداد الظل إلا مثل الشيء ، ثم إنه في زمان لطيف يصير ظله مثليه ، وذلك يدل على أن من الوقت الذي يصير ظل الشيء مثلا له تأخذ الشمس في النقصانات الظاهرة ، ثم إذا غربت الشمس أشبهت هذه الحالة ما إذا مات الإنسان ، فلا جرم أوجب الله تعالى عند هذه الحالة صلاة المغرب ، ثم لما غرب الشفق فكأنه انمحت آثار الشمس ولم يبق منها في الدنيا خبر ولا أثر ، فلا جرم أوجب الله تعالى صلاة العشاء ، فثبت أن إيجاب الصلوات الخمس في هذه الأوقات الخمسة مطابق للقوانين العقلية والأصول الحكمية ، والله أعلم بأسرار أفعاله .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية