الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            أما في الاعتقادات فبيانه من وجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            ( الأول ) : أن من توغل في التنزيه وقع في التعطيل ونفي الصفات ، ومن توغل في الإثبات وقع في التشبيه وإثبات الجسمية والمكان ، فهما طرفان معوجان ، والصراط المستقيم الإقرار الخالي عن التشبيه والتعطيل .

                                                                                                                                                                                                                                            ( والثاني ) : أن من قال : فعل العبد كله منه ، فقد وقع في القدر ، ومن قال : لا فعل للعبد ، فقد وقع في الجبر ، وهما طرفان معوجان ، والصراط المستقيم إثبات الفعل للعبد مع الإقرار بأن الكل بقضاء الله ، وأما في الأعمال فنقول : من بالغ في الأعمال الشهوانية وقع في الفجور ، ومن بالغ في تركها وقع في الجمود ، والصراط المستقيم هو الوسط ، وهو العفة ، وأيضا من بالغ في الأعمال الغضبية وقع في التهور ، ومن بالغ في تركها وقع في الجبن ، والصراط المستقيم هو الوسط ، وهو الشجاعة .

                                                                                                                                                                                                                                            اللطيفة الثانية : أن ذلك الصراط المستقيم وصفه بصفتين أولاهما إيجابية ، والأخرى سلبية ، أما الإيجابية فكون ذلك الصراط صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وأما السلبية فهي أن تكون بخلاف صراط الذين فسدت قواهم العملية بارتكاب الشهوات حتى استوجبوا غضب الله عليهم ، وبخلاف صراط الذين فسدت قواهم النظرية حتى ضلوا عن العقائد الحقية والمعارف اليقينية .

                                                                                                                                                                                                                                            اللطيفة الثالثة : قال بعضهم : إنه لما قال : ( اهدنا الصراط المستقيم ) لم يقتصر عليه ، بل قال : ( صراط الذين أنعمت عليهم ) وهذا يدل على أن المريد لا سبيل له إلى الوصول إلى مقامات الهداية والمكاشفة إلا إذا اقتدى بشيخ يهديه إلى سواء السبيل ويجنبه عن مواقع الأغاليط والأضاليل ، وذلك لأن النقص غالب على أكثر الخلق ، وعقولهم غير وافية بإدراك الحق وتمييز الصواب عن الغلط ، فلا بد من كامل يقتدي به الناقص حتى يتقوى عقل ذلك الناقص بنور عقل ذلك الكامل ؛ فحينئذ يصل إلى مدارج السعادات ومعارج الكمالات .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 153 ] وقد ظهر بما ذكرنا أن هذه السورة وافية ببيان ما يجب معرفته من عهد الربوبية وعهد العبودية المذكورين في قوله تعالى : ( وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم ) [ البقرة : 40 ] .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : في تقرير مشرع آخر من لطائف هذه السورة :

                                                                                                                                                                                                                                            اعلم أن أحوال هذا العالم ممزوجة بالخير والشر والمحبوب والمكروه ، وهذه المعاني ظاهرة لا شك فيها ، إلا أن نقول : الشر وإن كان كثيرا إلا أن الخير أكثر ، والمرض وإن كان كثيرا إلا أن الصحة أكثر منه ، والجوع وإن كان كثيرا إلا أن الشبع أكثر منه ، وإذا كان الأمر كذلك فكل عاقل اعتبر أحوال نفسه فإنه يجدها دائما في التغيرات والانتقال من حال إلى حال ، ثم إنه يجد الغالب في تلك التغيرات هو السلامة والكرامة والراحة والبهجة ، أما الأحوال المكروهة فهي وإن كانت كثيرة إلا أنها أقل من أحوال اللذة والبهجة والراحة ، إذا عرفت هذا فنقول : إن تلك التغيرات لأجل أنها تقتضي حدوث أمر بعد عدمه تدل على وجود الإله القادر ، ولأجل أن الغالب فيها الراحة والخير تدل على أن ذلك الإله رحيم محسن كريم ، أما دلالة التغيرات على وجود الإله فلأن الفطرة السليمة تشهد بأن كل شيء وجد بعد العدم فإنه لا بد له من سبب ؛ ولذلك فإنا إذا سمعنا أن بيتا حدث بعد أن لم يكن فإن صريح العقل شاهد بأنه لا بد من فاعل تولى بناء ذلك البيت ، ولو أن إنسانا شككنا فيه لم نتشكك ، فإنه لا بد وأن يكون فاعل تلك الأحوال المتغيرة قادرا ، إذ لو كان موجبا بالذات لدام الأثر بدوامه ، فحدوث الأثر بعد عدمه يدل على وجود مؤثر قادر ، وأما دلالة تلك التغيرات على كون المؤثر رحيما محسنا ؛ فلأنا بينا أن الغالب في تلك التغيرات هو الراحة والخير والبهجة والسلامة ، ومن كان غالب أفعاله راحة وخيرا وكرامة وسلامة كان رحيما محسنا ، ومن كان كذلك كان مستحقا للحمد ، ولما كانت هذه الأحوال معلومة لكل أحد وحاضرة في عقل كل أحد عاقل كان موجب حمد الله وثنائه حاضرا في عقل كل أحد ؛ فلهذا السبب علمهم كيفية الحمد فقال : ( الحمد لله ) ولما نبه على هذا المقام نبه على مقام آخر أعلى وأعظم من الأول ، وكأنه قيل : لا ينبغي أن تعتقد أن الإله الذي اشتغلت بحمده هو إلهك فقط ، بل هو إله كل العالمين ، وذلك لأنك إنما حكمت بافتقار نفسك إلى الإله لما حصل فيك من الفقر والحاجة والحدوث والإمكان ، وهذه المعاني قائمة في كل العالمين ، فإنها محل الحركات والسكنات وأنواع التغيرات ، فتكون علة احتياجك إلى الإله المدبر قائمة فيها ، وإذا حصل الاشتراك في العلة وجب أن يحصل الاشتراك في المعلول ، فهذا يقتضي كونه ربا للعالمين ، وإلها للسماوات والأرضين ، ومدبرا لكل الخلائق أجمعين ، ولما تقرر هذا المعنى ظهر أن الموجود الذي يقدر على خلق هذه العوالم على عظمتها ، ويقدر على خلق العرش والكرسي والسماوات والكواكب لا بد وأن يكون قادرا على إهلاكها ، ولا بد وأن يكون غنيا عنها ، فهذا القادر القاهر الغني يكون في غاية العظمة والجلال ، وحينئذ يقع في قلب العبد أني مع نهاية ذلتي وحقارتي كيف يمكنني أن أتقرب إليه ، وبأي طريق أتوسل إليه ، فعند هذا ذكر الله ما يجري مجرى العلاج الموافق لهذا المرض ، فكأنه قال : أيها العبد الضعيف ، أنا وإن كنت عظيم القدرة والهيبة والإلهية إلا أني مع ذلك عظيم الرحمة ، فأنا الرحمن الرحيم وأنا مالك يوم الدين ، فما دمت في هذه الحياة الدنيا لا أخليك عن أقسام رحمتي وأنواع نعمتي ، وإذا مت فأنا مالك يوم الدين ، لا أضيع عملا من أعمالك ، فإن أتيتني بالخير قابلت الخير الواحد بما لا نهاية له من الخيرات ، وإن أتيتني بالمعصية قابلتها بالصفح والإحسان والمغفرة .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية