الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( واتخذ الله إبراهيم خليلا ) وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : في تعلق هذه الآية بما قبلها ، وفيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن إبراهيم عليه السلام لما بلغ في علو الدرجة في الدين أن اتخذه الله خليلا كان جديرا بأن يتبع خلقه وطريقته .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أنه لما ذكر ملة إبراهيم ، ووصفه بكونه حنيفا ، ثم قال عقيبه : ( واتخذ الله إبراهيم خليلا ) أشعر هذا بأنه سبحانه إنما اتخذه خليلا ؛ لأنه كان عالما بذلك الشرع ، آتيا بتلك التكاليف ، ومما يؤكد هذا قوله : ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما ) [البقرة : 124] . وهذا يدل على أنه سبحانه إنما جعله إماما للخلق ؛ لأنه أتم تلك الكلمات .

                                                                                                                                                                                                                                            وإذ ثبت هذا فنقول : لما دلت الآية على أن إبراهيم عليه السلام إنما كان بهذا المنصب العالي ، وهو كونه خليلا لله تعالى بسبب أنه كان عاملا بتلك الشريعة كان هذا تنبيها على أن من عمل بهذا الشرع لا بد وأن يفوز بأعظم المناصب في الدين ، وذلك يفيد الترغيب العظيم في هذا الدين .

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 47 ] فإن قيل : ما موقع قوله : ( واتخذ الله إبراهيم خليلا ) ؟ .

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : هذه الجملة اعتراضية لا محل لها من الإعراب ، ونظيره ما جاء في الشعر من قوله :


                                                                                                                                                                                                                                            والحوادث جمة



                                                                                                                                                                                                                                            والجملة الاعتراضية من شأنها تأكيد ذلك الكلام ، والأمر ههنا كذلك على ما بيناه .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : ذكروا في اشتقاق الخليل وجوها :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن خليل الإنسان هو الذي يدخل في خلال أموره وأسراره ، والذي دخل حبه في خلال أجزاء قلبه ، ولا شك أن ذلك هو الغاية في المحبة .

                                                                                                                                                                                                                                            قيل : لما أطلع الله إبراهيم عليه السلام على الملكوت الأعلى والأسفل ، ودعا القوم مرة بعد أخرى إلى توحيد الله ، ومنعهم عن عبادة النجم والقمر والشمس ، ومنعهم عن عبادة الأوثان ، ثم سلم نفسه للنيران ، وولده للقربان ، وماله للضيفان جعله الله إماما للخلق ورسولا إليهم ، وبشره بأن الملك والنبوة في ذريته ، فلهذه الاختصاصات سماه خليلا ؛ لأن محبة الله لعبده عبارة عن إرادته لإيصال الخيرات والمنافع إليه .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثاني في اشتقاق اسم الخليل : أنه الذي يوافقك في خلالك . أقول : روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "تخلقوا بأخلاق الله " . فيشبه أن إبراهيم عليه السلام لما بلغ في هذا الباب مبلغا لم يبلغه أحد ممن تقدم ، لا جرم خصه الله بهذا التشريف .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الثالث : قال صاحب "الكشاف" : إن الخليل هو الذي يسايرك في طريقك ، من الخل وهو الطريق في الرمل ، وهذا الوجه قريب من الوجه الثاني ، أو يحمل ذلك على شدة طاعته لله وعدم تمرده في ظاهره وباطنه عن حكم الله ، كما أخبر الله عنه بقوله : ( إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ) [البقرة : 131] .

                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الرابع : الخليل هو الذي يسد خللك كما تسد خلله ، وهذا القول ضعيف ؛ لأن إبراهيم عليه السلام لما كان خليلا مع الله امتنع أن يقال : إنه يسد الخلل ، ومن ههنا علمنا أنه لا يمكن تفسير الخليل بذلك .

                                                                                                                                                                                                                                            أما المفسرون فقد ذكروا في سبب نزول هذا اللقب وجوها :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أنه لما صار الرمل الذي أتى به غلمانه دقيقا قالت امرأته : هذا من عند خليلك المصري ، فقال إبراهيم : بل هو من خليلي الله .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : قال شهر بن حوشب : هبط ملك في صورة رجل وذكر اسم الله بصوت رخيم شجي ، فقال إبراهيم عليه السلام : اذكره مرة أخرى ، فقال : لا أذكره مجانا ، فقال : لك مالي كله ، فذكره الملك بصوت أشجى من الأول ، فقال : اذكره مرة ثالثة ولك أولادي ، فقال الملك : أبشر فإني ملك لا أحتاج إلى مالك وولدك ، وإنما كان المقصود امتحانك ، فلما بذل المال والأولاد على سماع ذكر الله لا جرم اتخذه الله خليلا .

                                                                                                                                                                                                                                            الثالث : روى طاوس عن ابن عباس : أن جبريل والملائكة لما دخلوا على إبراهيم في صورة غلمان حسان الوجوه ، وظن الخليل أنهم أضيافه ، وذبح لهم عجلا سمينا ، وقربه إليهم ، وقال : كلوا على شرط أن تسموا الله في أوله وتحمدوه في آخره ، فقال جبريل : أنت خليل الله ، فنزل هذا الوصف . وأقول : فيه عندي وجه آخر ، وهو أن جوهر الروح إذا كان مضيئا مشرقا علويا قليل التعلق باللذات الجسمانية والأحوال الجسدانية ، ثم انضاف إلى مثل هذا الجوهر المقدس الشريف أعمال تزيده صقالة عن الكدورات الجسمانية ، وأفكار تزيده استنارة بالمعارف القدسية [ ص: 48 ] والجلايا الإلهية ، صار مثل هذا الإنسان متوغلا في عالم القدس والطهارة ، متبرئا عن علائق الجسم والحس ، ثم لا يزال هذا الإنسان يتزايد في هذه الأحوال الشريفة إلى أن يصير بحيث لا يرى إلا الله ، ولا يسمع إلا الله ، ولا يتحرك إلا بالله ، ولا يسكن إلا بالله ، ولا يمشي إلا بالله ، فكأن نور جلال الله قد سرى في جميع قواه الجسمانية ، وتخلل فيها وغاص في جواهرها ، وتوغل في ماهياتها ، فمثل هذا الإنسان هو الموصوف حقا بأنه خليل ، لما أنه تخللت محبة الله في جميع قواه ، وإليه الإشارة بقول النبي صلى الله عليه وسلم في دعائه : " اللهم اجعل في قلبي نورا ، وفي سمعي نورا ، وفي بصري نورا ، وفي عصبي نورا" .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : قال بعض النصارى : لما جاز إطلاق اسم الخليل على إنسان معين على سبيل الإعزاز والتشريف ، فلم لا يجوز إطلاق اسم الابن في حق عيسى عليه السلام على سبيل الإعزاز والتشريف ؟ .

                                                                                                                                                                                                                                            وجوابه : أن الفرق أن كونه خليلا عبارة عن المحبة المفرطة ، وذلك لا يقتضي الجنسية ، أما الابن فإنه مشعر بالجنسية ، وجل الإله عن مجانسة الممكنات ومشابهة المحدثات .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية