الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما )

                                                                                                                                                                                                                                            في الآية مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما حكى أن اليهود سألوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن ينزل عليهم كتابا من السماء ، وذكر تعالى بعده أنهم لا يطلبون ذلك لأجل الاسترشاد ولكن لأجل العناد واللجاج ، وحكى أنواعا كثيرة من فضائحهم وقبائحهم ، وامتد الكلام إلى هذا المقام ، شرع الآن في الجواب عن تلك الشبهة فقال : ( إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده ) والمعنى : أنا توافقنا على نبوة نوح وإبراهيم وإسماعيل وجميع المذكورين في هذه الآية ، وعلى أن الله تعالى أوحى إليهم ، ولا طريق إلى العلم بكونهم أنبياء الله ورسله إلا ظهور المعجزات عليهم ولكل واحد منهم نوع آخر من المعجزات على التعيين ، وما أنزل الله على كل واحد من هؤلاء المذكورين كتابا بتمامه مثل ما أنزل إلى موسى ، فلما لم يكن عدم إنزال الكتاب على هؤلاء دفعة واحدة قادحا في نبوتهم ، بل كفى في إثبات نبوتهم ظهور نوع واحد من أنواع المعجزات عليهم ، علمنا أن هذه الشبهة زائلة ، وأن إصرار اليهود على طلب هذه المعجزة باطل ، وتحقيق القول فيه أن [ ص: 86 ] إثبات المدلول يتوقف على ثبوت الدليل ، ثم إذا حصل الدليل وتم فالمطالبة بدليل آخر تكون طلبا للزيادة وإظهارا للتعنت واللجاج ، والله سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، فلا اعتراض عليه لأحد بأنه لم أعطى هذا الرسول هذه المعجزة وذلك الرسول الآخر معجزا آخر ، وهذا الجواب المذكور ههنا هو الجواب المذكور في قوله تعالى : ( وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ) [الإسراء : 90] إلى قوله : ( قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ) [الإسراء : 93] يعني أنك إنما ادعيت الرسالة ، والرسول لا بد له من معجزة تدل على صدقه ، وذلك قد حصل ، وأما أن تأتي بكل ما يطلب منك فذاك ليس من شرط الرسالة ، فهذا جواب معتمد عن الشبهة التي أوردها اليهود ، وهو المقصود الأصلي من هذه الآية .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : قال الزجاج : الإيحاء الإعلام على سبيل الخفاء ، قال تعالى : ( فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا ) [مريم : 11] أي : أشار إليهم ، وقال : ( وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي ) [المائدة : 111] وقال ( وأوحى ربك إلى النحل ) [النحل : 68] ( وأوحينا إلى أم موسى ) [القصص : 7] والمراد بالوحي في هذه الآيات الثلاثة الإلهام .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : قالوا : إنما بدأ تعالى بذكر نوح لأنه أول نبي شرع الله تعالى على لسانه الأحكام والحلال والحرام ، ثم قال تعالى : ( والنبيين من بعده ) ثم خص بعض النبيين بالذكر لكونهم أفضل من غيرهم كقوله : ( وملائكته ورسله وجبريل وميكال ) [البقرة : 98] .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن الأنبياء المذكورين في هذه الآية سوى موسى - عليه السلام - اثنا عشر ولم يذكر موسى معهم ، وذلك لأن اليهود قالوا : إن كنت يا محمد نبيا فأتنا بكتاب من السماء دفعة واحدة كما أتى موسى - عليه السلام - بالتوراة دفعة واحدة ، فالله تعالى أجاب عن هذه الشبهة بأن هؤلاء الأنبياء الاثني عشر كلهم كانوا أنبياء ورسلا مع أن واحدا منهم ما أتى بكتاب مثل التوراة دفعة واحدة ، ثم ختم ذكر الأنبياء بقوله : ( وآتينا داود زبورا ) يعني أنكم اعترفتم بأن الزبور من عند الله ، ثم إنه ما نزل على داود دفعة واحدة في ألواح مثل ما نزلت التوراة دفعة واحدة على موسى - عليه السلام - في الألواح ، فدل هذا على أن نزول الكتاب لا على الوجه الذي نزلت التوراة لا يقدح في كون الكتاب من عند الله ، وهذا إلزام حسن قوي .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : قال أهل اللغة : الزبور الكتاب ، وكل كتاب زبور ، وهو فعول بمعنى مفعول ، كالرسول والركوب والحلوب ، وأصله من زبرت بمعنى كتبت ، وقد ذكرنا ما فيه عند قوله : ( جاءوا بالبينات والزبر ) [آل عمران : 184] .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الخامسة : قرأ حمزة : ( زبورا ) بضم الزاي في كل القرآن ، والباقون بفتحها ، حجة حمزة أن الزبور مصدر في الأصل ، ثم استعمل في المفعول كقولهم : ضرب الأمير ونسج فلان ، فصار اسما ثم جمع على زبر كشهود وشهد ، والمصدر إذا أقيم مقام المفعول فإنه يجوز جمعه كما يجمع الكتاب على كتب ، فعلى هذا ، الزبور الكتاب ، والزبر بضم الزاي : الكتب ، أما قراءة الباقين فهي أولى لأنها أشهر ، والقراءة بها أكثر .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية