الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            الوجه الرابع : أن الحمل على نفي الصحة أولى لوجوه :

                                                                                                                                                                                                                                            أحدها : أن الأصل إبقاء ما كان على ما كان .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن جانب الحرمة راجح .

                                                                                                                                                                                                                                            والثالث : أن هذا أحوط .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة السابعة : عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : كل صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج غير تمام . قالوا : الخداج هو النقصان ، وذلك لا يدل على عدم الجواز ، قلنا : بل هذا يدل على عدم الجواز ؛ لأن التكليف بالصلاة قائم ، والأصل في الثابت البقاء ، خالفنا هذا الأصل عند الإتيان بالصلاة على صفة الكمال ، فعند الإتيان بها على سبيل النقصان وجب أن لا نخرج عن العهدة ، والذي يقوي هذا أن عند أبي حنيفة يصح الصوم في يوم العيد ، إلا أنه لو صام يوم العيد قضاء عن رمضان لم يصح ، قال : لأن الواجب عليه هو الصوم الكامل ، والصوم في هذا اليوم ناقص ، فوجب أن لا يفيد هذا القضاء الخروج عن العهدة ، وإذا ثبت هذا فنقول : فلم لم يقل بمثل هذا الكلام في هذا المقام .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الثامنة : نقل الشيخ أبو حامد في تعليقه عن ابن المنذر أنه روى بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تجزئ صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب .

                                                                                                                                                                                                                                            والحجة التاسعة : روى رفاعة بن مالك أن رجلا دخل المسجد وصلى ، فلما فرغ من صلاته - وذكر الخبر إلى أن قال الرجل : علمني الصلاة يا رسول الله ، فقال عليه الصلاة والسلام : إذا توجهت إلى القبلة فكبر واقرأ بفاتحة الكتاب . وجه الدليل أن هذا أمر ، والأمر للوجوب ، وأيضا الرجل قال : علمني الصلاة ، فكل ما ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم وجب أن يكون من الصلاة ، فلما ذكر قراءة الفاتحة وجب أن تكون قراءة الفاتحة جزءا من أجزاء الصلاة .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة العاشرة : روي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : ألا أخبركم بسورة ليس في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور مثلها ، قالوا : نعم ، قال : فما تقرءون في صلاتكم ؟ قالوا : الحمد لله رب العالمين ، فقال : هي هي . وجه الدليل أنه عليه الصلاة والسلام لما قال : ما تقرءون في صلاتكم ؟ فقالوا : " الحمد لله " . وهذا يدل على أنه كان مشهورا عند الصحابة أنه لا يصلي أحد إلا بهذه السورة ، فكان هذا إجماعا معلوما عندهم .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الحادية عشرة : التمسك بقوله تعالى : ( فاقرءوا ما تيسر من القرآن ) [ المزمل : 20 ] وجه الدليل أن قوله : ( فاقرءوا ) أمر ، والأمر للوجوب ، فهذا يقتضي أن قراءة ما تيسر من القرآن واجبة ، فنقول : المراد بما تيسر من القرآن إما أن يكون هو الفاتحة أو غير الفاتحة ، أو المراد التخيير بين الفاتحة وبين غيرها ، والأول يقتضي أن تكون الفاتحة بعينها واجبة ، وهو المطلوب ، والثاني يقتضي أن تكون قراءة غير الفاتحة واجبة علينا ، وهو [ ص: 159 ] باطل بالإجماع . والثالث يقتضي أن يكون المكلف مخيرا بين قراءة الفاتحة وبين قراءة غيرها ، وذلك باطل بالإجماع ؛ لأن الأمة مجمعة على أن قراءة الفاتحة أولى من قراءة غيرها ، وسلم أبو حنيفة أن الصلاة بدون قراءة الفاتحة خداج ناقص ، والتخيير بين الناقص والكامل لا يجوز .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنه تعالى إنما سمى قراءة الفاتحة قراءة لما تيسر من القرآن لأن هذه السورة محفوظة لجميع المكلفين من المسلمين ، فهي متيسرة للكل ، وأما سائر السور فقد تكون محفوظة وقد لا تكون ، وحينئذ لا تكون متيسرة للكل .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الثانية عشرة : الأمر بالصلاة كان ثابتا ، والأصل في الثابت البقاء ، خالفنا هذا الأصل عند الإتيان بها للصلاة المشتملة على قراءة الفاتحة ؛ لأن الأخبار دالة على أن سورة الفاتحة أفضل من سائر السور ، ولأن المسلمين أطبقوا على أن الصلاة مع قراءة هذه السورة أكمل من الصلاة الخالية عن قراءة هذه السورة ، فعند عدم قراءة هذه السورة وجب البقاء على الأصل .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الثالثة عشرة : قراءة الفاتحة توجب الخروج عن العهدة باليقين ، فكانت أحوط ، فوجب القول بوجوبها للنص والمعقول ، أما النص فقوله عليه الصلاة والسلام : دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ، وأما المعقول فهو أنه يفيد دفع ضرر الخوف عن النفس ، ودفع الضرر عن النفس واجب ؛ فإن قالوا : فلو اعتقدنا الوجوب لاحتمل كوننا مخطئين فيه ، فيبقى الخوف ، قلت : اعتقاد الوجوب يورث الخوف المحتمل ، واعتقاد عدم الوجوب يورثه أيضا ، فيتقابل هذان الضرران ، وأما في العمل فإن القراءة لا توجب الخوف ، أما تركه فيفيد الخوف ، فثبت أن الأحوط هو العمل .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الرابعة عشرة : لو كانت الصلاة بغير الفاتحة جائزة وكانت الصلاة بالفاتحة جائزة لما كانت الصلاة بالفاتحة أولى ؛ لأن المواظبة على قراءة الفاتحة توجب هجران سائر السور ، وذلك غير جائز ، لكنهم أجمعوا على أن الصلاة بهذه السورة أولى ، فثبت أن الصلاة بغير هذه السورة غير جائزة .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة الخامسة عشرة : أجمعنا على أنه لا يجوز إبدال الركوع والسجود بغيرهما ، فوجب أن لا يجوز إبدال قراءة الفاتحة بغيرها ، والجامع رعاية الاحتياط .

                                                                                                                                                                                                                                            الحجة السادسة عشرة : الأصل بقاء التكليف ، فالقول بأن الصلاة بدون قراءة الفاتحة تقتضي الخروج عن العهدة ، إما أن يعرف بالنص أو القياس ، أما الأول فباطل ؛ لأن النص الذي يتمسكون به هو قوله تعالى : (فاقرءوا ما تيسر من القرآن ) [ المزمل : 20 ] وقد بينا أنه دليلنا ، وأما القياس فباطل ؛ لأن التعبدات غالبة على الصلاة ، وفي مثل هذه الصورة يجب ترك القياس .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية