الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            النوع الحادي عشر : قوله تعالى : ( وأن تستقسموا بالأزلام ) قال القفال - رحمه الله - : ذكر هذا في جملة المطاعم لأنه مما أبدعه أهل الجاهلية وكان موافقا لما كانوا فعلوه في المطاعم ، وذلك أن الذبح على النصب إنما كان يقع عند البيت ، وكذا الاستقسام بالأزلام كانوا يوقعونه عند البيت إذا كانوا هناك ، وفيه مسألتان :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : في الآية قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : كان أحدهم إذا أراد سفرا أو غزوا أو تجارة أو نكاحا أو أمرا آخر من معاظم الأمور ضرب بالقداح ، وكانوا قد كتبوا على بعضها : أمرني ربي ، وعلى بعضها : نهاني ربي ، وتركوا بعضها خاليا عن الكتابة ، فإن خرج الأمر أقدم على الفعل ، وإن خرج النهي أمسك ، وإن خرج الغفل أعاد العمل مرة أخرى ، فمعنى الاستقسام بالأزلام طلب معرفة الخير والشر بواسطة ضرب القداح .

                                                                                                                                                                                                                                            الثاني : قال المؤرج وكثير من أهل اللغة : الاستقسام هنا هو الميسر المنهي عنه ، والأزلام قداح الميسر ، والقول الأول اختيار الجمهور .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : الأزلام القداح واحدها زلم ، ذكره الأخفش . وإنما سميت القداح بالأزلام لأنها زلمت أي : سويت . ويقال : رجل مزلم وامرأة مزلمة إذا كان خفيفا قليل العلائق ، ويقال قدح مزلم وزلم إذا ظرف وأجيد قده وصنعته ، وما أحسن ما زلم سهمه ، أي : سواه ، ويقال لقوائم البقر أزلام ، شبهت بالقداح للطافتها .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( ذلكم فسق ) وفيه وجهان :

                                                                                                                                                                                                                                            الأول : أن يكون راجعا إلى الاستقسام بالأزلام فقط ومقتصرا عليه .

                                                                                                                                                                                                                                            والثاني : أن يكون راجعا إلى جميع ما تقدم ذكره من التحليل والتحريم ، فمن خالف فيه رادا على الله تعالى كفر .

                                                                                                                                                                                                                                            فإن قيل : على القول الأول لم صار الاستقسام بالأزلام فسقا ؟ أليس أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يحب الفأل ، وهذا أيضا من جملة الفأل فلم صار فسقا ؟

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : قال الواحدي : إنما يحرم ذلك لأنه طلب لمعرفة الغيب ، وذلك حرام لقوله تعالى : ( وما تدري نفس ماذا تكسب غدا ) [لقمان : 34] وقال : ( قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله ) [النمل : 65] وروى أبو الدرداء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " من تكهن أو استقسم أو تطير طيرة ترده عن سفره لم ينظر إلى الدرجات العلى من الجنة يوم القيامة " .

                                                                                                                                                                                                                                            ولقائل أن يقول : لو كان طلب الظن بناء على الأمارات المتعارفة طلبا لمعرفة الغيب لزم أن يكون علم [ ص: 108 ] التعبير غيبا أو كفرا لأنه طلب للغيب ، ويلزم أن يكون التمسك بالفأل كفرا لأنه طلب للغيب ، ويتعين أن يكون أصحاب الكرامات المدعون للإلهامات كفارا ، ومعلوم أن ذلك كله باطل ، وأيضا فالآيات إنما وردت في العلم ، والمستقسم بالأزلام نسلم أنه لا يستفيد من ذلك علما ، وإنما يستفيد من ذلك ظنا ضعيفا ، فلم يكن ذلك داخلا تحت هذه الآيات . وقال قوم آخرون إنهم كانوا يحملون تلك الأزلام عند الأصنام ويعتقدون أن ما يخرج من الأمر والنهي على تلك الأزلام فبإرشاد الأصنام وإعانتهم ، فلهذا السبب كان ذلك فسقا وكفرا ، وهذا القول عندي أولى وأقرب .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية